كانت حفلات الزفاف والمناسبات بالقصر الكبير والتي تحضر فيها "المداحة " مناسبة للتنفيس والترويح عن النفس للنساء ، واستعمل هنا كلمة المداحة بحمولتها الايجابية ، والمداحات جماعات نسوية تقوم بالمدح ، هذه الجماعات التي اقتصر غناؤها على المدح الديني أولا ، كن يدعين إلى حفلات الأعراس تبركا بهن وبمديحهن للرسول أو الأولياء ،باستعمال آلات بسيطة كآلة البندير والطبيلة والتعريجة والدربوكة -الدبكة – وصنجات نحاسية صغيرة – قرباببينة – ، ثم تطورت الأمور و جعلهن يطرحن مواضيع أخرى عدا المدح الديني ، ومدحن شخصيات أخرى عدا الرسول (ص) والإعلام والأضرحة ومع الوقت بدا الطلب على أغاني الغزل والتغني بالطبيعة والغناء الاجتماعي ، كل هذا دفع المداحات لتطوير ادائهن ومواضيع الغناء ،كانت كل من فرقت هنية ومكية القصرية ، فرقتان تتصدران الأجواق النسوية ولا يستقيم عرس بدون أحداهما نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات تظهر مداحة تعطي نفسا جديدا ،إنها "خدوج الميل "، استطاعت أن تصنع لنفسها البصمة الخاصة بها .لقد سبقني الأستاذ عبد القادر الغزاوي للحديث عنها في مقالة بعنوان "الأجواق النسائية بمدينة القصر الكبير : السيدة خدوج الميل رائدة الأجواق الموسيقية النسائية" نشر ببوابة القصر الكبير بتاريخ 4 اكتوبر 2015 حيث ورد في آخر نصه (واليوم لا أحد يتذكر السيدة خدوج الميل ولا من يسأل عنها، ولا عن تلك المعلمات الأخريات فدخلن عالم النسيان والإهمال، رغم المكانة والشهرة اللتين حظين بهما أيام مجدهن وتألقهن وخاصة السيدة خدوج الميل). خدوج الميل ، هي خدوج بنت عبد السلام العروسي ، لا احد يستطيع بدقة معرفة سبب تسميتها بالميل او بالمايل ، ولكن يرجح الحاج محمد البقالي ،ان الميل يقصد به الميزان أو الإيقاع في الموسيقى وبفعل مخالطته ومعاشرتة للمرحومة خدوج الميل يسرد حكايتها بكثير من الحنين والحسرة ، من مواليد سنة 1926 بقبيلة بني عروس فقدت والدها وهي طفلة وعاشت إلى جانب أمها الكفيفة حياة قاسية بالبادية ، ورغم هذه القساوة تشبعت بالأجواء والاحتفالات التي كانت تقام وحفظت العديد من الأغاني الجبلية وبدأت تظهر موهبتها في الغناء ، بقرار منها أو بإيعاز من شخص ما تهاجر إلى تطوان رفقة والدتها وهي في سن الثلاثين ، كانت تطوان في أربعينيات القرن الماضي تعج بالحركة الثقافية والفنية وكانت الأجواق النسوية قد ظهرت والمراة اقتحمت مجال الموسيقى ، شهابة – وبطيوة – والتاج وغيرهن ،تنظم خدوج إلى إحدى الفرق النسوية وبعد ذلك تؤسس جوقها الخاص بعد أن تعلمت العزف على آلة العود ، ذاع صيتها واشتهرت بجمالها ، لكن هذا الجمال يصبح وبالا عليها ، لا يدري احد كذلك سبب إقدام باشا تطوان محمد اشعاش ليعمل على دعوتها ويطلب منها مغادرة مدينة تطوان ويعين لها مدينة القصر الكبير ، ترجح إنها تعرضت لدسيسة إحدى المنافسات التي أوعزت لحريم الباشا مدى خطورة جمال خدوج ، تلجأ خدوج المايل إلى القصر الكبير رفقة والدتها الكفيفة ، ماهي إلا أيام قليلة يدعوها الباشا الملالي و يخضعها لتحقيق بسيط ويخلى سبيلها ، تستقبلها إحدى صديقاتها "الزهرة ضوبتي " وعملا معا على تأسيس فرقة ، بدا نجمها يسطع بالقصر الكبير ، المداحة الشقراء البيضاء المربوعة القد ذات العينين الزرقاوتين، تلبس الحائك يرافقها عودها وهي أول امرأة تعزف على آلة العود ولم يكن هذا الأمر مألوفا في الوسط القصري ، استقلت بمسكنها بدرب الكايزة ، واتخذت من فطيطم بنت الكتامي جارة وصديقة حميمة ، كان كل من المرحومين علال علوان وعبد القادر الريضوبلي يتكفلان بضبط آلة العود ، لم يكن يستقيم عرس بدون خدوج الميل وفرقتها ، تحضر خدوج المايل بأناقتها ،بقفطان " الخريب" ودفينة الحرير ، ذاتا اللون الوردي وأحيانا الازرق السماوي ، بالمضمة الذهبية و"شرتلة" من سبع "فردات" ودمليج مشبك ، يخصص مكان للفرقة ، تبدأ الحفلة باكرا ، تدخل المدعوات فرادى وجماعات ، طامو عضوة الجوق ، امرأة كفيفة صاحبة البندير " تهز اليد " تذكر مناقب النساء اللواتي يدخلن وأسرهن وأصولها الطيبة ، كان الجوق يتكون من الزهرة وطامو السلطانية وعويشة وفاطمة خبازة ومنيونة ، تستوي الحاضرات في أماكهن ، ويبدأ الحفل بأغاني تمدح الرسول وتكثر من الصلاة عليه" -الحرم يا رسول الله – ثم تنتقل إلى أغاني أخرى قد تدفع بعض النساء والبنات للرقص ، النساء يكتفين "بالتشيير " الإشارة بأهذاب القفطان مع حركة خفيفة للجسد لا تكاد ترى ، ويضعن الغرامة ، تستطيع أن ترفع إيقاع الليلة للوصول بها إلى ذروتها ، بخبرتها تعرف أي أغنية تفضل هذه المدعوة أو تلك ،أغاني تفردت بها خدوج الميل ،أدتها بدون مكبرات للصوت ، – عكس صخب الديجيات اليوم – من بينها أغنية ( العثماني) (الوشام) (ويا لايمي ) وغيرها من أغاني الملحون والأندلسي ، بصوت قوي به بحة وحشرجة خفيفة ، من أحزنها كانت تصنع الفرح ،من أغنية "العثماني" اقتطف المقطع التالي أغنية العثماني صلوا يا العاشقين على المداني ** تاج النور رسول الله حفظ القصيدة وصقل المعاني ** المصمودي دار الكريم رجاه اذا طال عمر متعوبو فاني **فين ما شاف الزين يهيج معاه بيبان عالية وزكارم رومية **كيف ندير نراك يا الغزال هاد النهار تمنتو من أيامي **مينة يا مينة معك شرع الله قهوة فالبريق وأتاي الثاني **حتى لقامة معدلة على لشكال ويضيق المجال لسرد أغنيتين جميلتن لطولهما الأولى الايمني (يا لائمي ) والثانية أغنية الوشام (الوشم ) ،أغنيتان خاليتان من أي ابتذال أضعهما رهن إشارة من يطلبهما على امل ان يجمع الباقي ، ربما لم تكن تجد من يدون ما كانت تشنف به الأسماع من قصائد ،ضاع جزء كبير منها ،لم تتلق تكوينا موسيقيا أكاديميا ، وحدها العزيمة والتحدي والموهبة جعلت منها فنانة موهوبة ، ساهمت في ثراء الحياة الفنية القصرية ، هي فلتة زمانها طواها المسيان ، هي نموذج لكثيرين لا يقلون عنها في العطاء، قدمت الكثير ورحلت .. بعدما أدارت الدنيا لها ظهرها وغاب الصديق والصاحب والأخ والمحب .. وظهرت قسوة الحياة بألوانها. وحده الحاج محمد البقالي ظل بجانبها وأفراد من أسرتها .. في مسيرتها تزوجت ورزقت بابنة تزوجت هي الأخرى وهاجرت رفقة زوجها إلى أوروبا كانت تزورها واستقرت مدة من الزمن هناك معها، قبل اعتزالها الغناء كسرت عودها ورمته ذات مساء ببحر طنجة حسب رواية الحاج محمد البقالي و التي توفيت بها ، ودفنت بالقصر الكبير ،رحم الله خدوج الميل .