عند منتصف الليل كانت محطة الأتوبيس شبه فارغة ، جلست بجانب فتاة أنيقة ننتظر قدوم الحافلة التي ستقلني إلى قريتي الصغيرة القريبة من مدينة أمستردام الصاخبة ، استغربت كيف أني لم أكن قد رأيت من قبل هذه الفتاة الوديعة في القرية حيث جميع الأهالي كانوا يعرفون بعضهم ، ربما تكون هذه البنت مجرد عابرة سبيل ، لاحظت آلة الكمان بجانبها، قد تكون أستاذة الموسيقى انتدبتها الوزارة لكي تشتغل في المعهد الذي أفتتح مؤخرا لفائدة أطفال القرية ، كانت الإضاءة ضعيفة جدا لكني مع ذلك استطعت أن أميز شعرها الحريري الأشقر منسدلا إلى الخلف، وحاجبين مقوسين رقيقين يطلان على عينين اعتقدت أنهما زرقاوين كانت تخفيهما خلف نظارتين جميلتين ، حمرة خديها وشفتيها تمنحك الاعتقاد أنك أمام إحدى لوحات الرسام فانخوخ الخالدة ، أردت أن أكسر من عتمة ظلمة المكان وأن أرفع الكلفة بيني و بينها ، فقلتُ لها : – على ما يبدو ، هناك خلل في الإضاءة فالمكان شبه مظلم ابتسمت الفتاة لكنها لم تعلق ، شعرت وكأنها سعيدة بهذا الصمت الذي يخيم على محطة الأتوبيس ولا ترغب في الحديث، أخذتُ أتسلى بهاتفي لكي أقاوم هذا الملل الذي صار يكبر في داخلي جراء تأخر الحافلة ، فجأة سمعت عزفها البديع على أوتار الكمان بآناملها الرقيقة البيضاء ، ربما هي أيضا شعرت بالملل ، يا لها من فتاة خارقة كيف استطاعت أن تحول مكانا للانتظار والضجر إلى مسرح للفن والمتعة والابداع ؟ أنا الذي كنت أنتظر الحافلة بكثير من الصبر ها أنا الآن أتمنى أن لا تأتي أبدا. جاءت الحافلة ، صعدتُ ثم جلست. شاهدت من النافذة الفتاة الأنيقة وهي تحمل الكمان في يدها اليسرى وفي اليد الأخرى تحم عكازا تنقر به على حافة الطريق، ثم صعدت الحافلة فجلست في مكان مخصص للمكفوفين.