كنت أنتظر وصول الحافلة على الرصيف المصبوغ بالأبيض و الأحمر ، و الانتظار في مثل هذه الساعة ، آلة فولاذية تسحق الوقت الثمين و تدمر ما بقي من مخزون صبر استنفذه اليومي ، و تترك الاحتقان لغة التداول بين الخلق . شاهدت ذلك حتى في أماكن العبادة . و تلبدت غيمة في سماء المدينة ، أمطرت الحر في صباح هذا اليوم القائظ ، و تفصدت الأجساد بالعرق النتن . تراءت الحافلة من بعيد تسبح في طريق وسط عربات الجر و السيارات و الراجلين ، فتزاحم الركاب قبل الركوب ، و كأن الحافلة ستقلهم إلى فردوس مفقود في هذا الوطن ، كل شيء فيه يجعلني أنتظر .. أنتظر بلا معنى .. مرت الحافلة و لم تتوقف ، استنفذت طاقتها الاستيعابية ، و تباعد المنتظرون إلى الوراء ، و خاب تحفزهم للوثوب ، و عادوا للانتظار ثانية وربما ثالثة ، هم هكذا ، دائما في هذا البلد ينتظرون.. ينتظرون الخلاص .. قلت لهم في داخلي ، الذي قفز فيه مارد يحرضني على الانفجار " انتظروا يا شعب الانتظار فإن الصبح ليس ببعيد " ،لكنني تماسكت و كظمت الغيظ بالحلم ، و رحت أسلي نفسي بالنظر إلى كل ثابت و متحرك أمامي ، إلى الناس و قد أطبقت كماشة العولمة على مظاهرهم ، من تسريحة الشعر إلى سراويل الجينز الممزقة عرضا عند الركبة ، فتحولوا إلى أماط بشرية صنعتها اللقطات الاشهارية تبثها فضائيات الدول العظمى ، تحرض على الاستهلاك ، الاستهلاك يا سوائم الألفية الثالثة دون إنتاج ، فهو بعيد عنكم بعد السماء عن الأرض ، إلا من إنتاج الفقر و النغولة و السفل و القنب الهندي بالأطنان . و صلت الحافلة وهم الناس بالصعود إليها ككتلة آدمية واحدة . سمعت صراخ طفل في الكتلة ، تبيت بمشقة جسده الغض لأسحبه حتى لا تطحنه هذه الدواب ، تنفس بعمق و بكى ، تمهلته حتى غاصت الكتلة الآدمية في الحافلة بالسب و اللعن و الشجار ، و صعدنا باحثين ليس على مقعدين بل على أمان واقفين ،تمسك الطفل كأني والده ، و تمسكت به كأنه ابني ، فهدأ روعه و تبدد خوفه و رسم ابتسامة بريئة أهداها إلى كل ناظر إليه . حاولت أن أخلص يدي من يده الصغيرة لأسحب منديلا من جيبي أمسح به العرق المتصبب من وجهي ، فوجدته يمسك يدي بقوة ، سألته " إلى أين أنت ذاهب ؟ " ، فلم يرد ، انحنيت عليه و أعدت السؤال ، فأشار بسبابته إلى اللاشيء . فتيقنت أنني في ورطة مع طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة ، و لعنت الحافلة و الكتلة البشرية و عقارب الساعة الزاحفة على اقتراب موعد العمل، و أنا لازلت بعيدا عن مقر عملي ، و تراءى لي وجه المدير العبوس الحزين مزبدا مرعدا مستفسرا بوقاحة عن سبب التأخر أو الغياب ، و حزنت للاقتطاع من الراتب بعد التوبيخ و تجميد الترقية و العلاوات في شركة لم يعد منها إلا الاسم و البناية المتهالكة . نزلنا من حافلة " الكارو " هاته ، و فجأة قفزت إلى ذهني أن مثل هؤلاء الأطفال يحملهم أهلهم قلادة تعرف بهم في حالة الضياع ، و قد وجدتها معلقة في عنقه مدسوسة تحت قميصه ، مكتوب عليها اسمه و عنوانه و رقم هاتف خلوي . أسرعت إلى أقرب مخدع للهاتف ، ركبت الرقم ، فجاءني صوت مكسور مقطع بالنشيج لسيدة بادرتني بالسؤال عن الطفل ،أكدت لها أن الطفل في حالة جيدة ،و أننا نتواجد في وسط المدينة في محطة الحافلات ، و بعد مرور ربع ساعة ،وقفت بالقرب منا سيارة أجرة ، مرقت منها سيدة في مقتبل العمر ، احتضنت الطفل برهة لترفع إلي عينين زرقاوين زرقة مياه البحر ، أوهجت الدموع بريقهما. فأنستني العينان المدير و الاستفسار و حتى الاقتطاع .. لم أحول نظري عنهما ، و صرخت في داخلي كالمخبول " يا رب ، إنك تخلق من الشبه أربعين ، و أقسم أن لهذين العينين شبههما في أعماقي " . نبشت في ذاكرة رجل في الخمسين لا زال في غيه القديم ، يعيش على ذكرى عمرها ثلاثة عقود ، بطلتها ذات العينين الزرقاوين ، رحلت بعيدا ، خطفتها المدينة الأخيرة للطريق المتوسطي عند نقطة الكيلومتر واحد ، طنجة العلياء بمحبوبتي مخلفة شوقي مع التيه ، في رحلة عزوبة أقسمت ألا أقطعها ، وفاءا لعهد نكثته في لحظة غضب صبياني .