فرحته إرتج لها الوجود بعد أن تم قبوله في التجنيد، أخيرا سينال شرف خدمة الوطن والإنضمام لمن كانوا دوما قدوته في الحياة، لطالما ألهبوا مشاعره بملابسهم الرسمية وملامحهم المرهبة. طفولته تمحورت كلها حول الجنود والنظام الصارم الذي يحكم حياتهم، فقد ترعرع في مدينة حدودية غالبية سكانها من الجنود كما أن بيته كان مجاورا للثكنة لذلك كان دائما يراهم في الصباح الباكر يخرجون جماعة للجري رفقة مدربيهم ورؤسائهم. أبي عشق حياة الجنود حد الجنون لذلك لم يترقف يوما عن الحلم وانتظار التخلص من قيد الطفولة حتى ينظم للجيش، وبذلك ينقد أسرته من براثن الفقر. بحلول ربيعه السابع عشر تحول حلمه لحقيقة ووجد نفسه داخل أسوار الثكنة. قضى ثلاثة أشهر في التدريب ليرسل إلى قفار مدينة الداخلة. عشقته الصحراء لدرجة رفضت فراقه مند سة 1979 إلى الآن ولولا القوانين لما أسلمته للتقاعد نهاية سنة 2017. فتحت عيني في الدنيا لأجد أنني لن أحظى بشرف قضاء السنة كلها رفقة أبي، بل لي الحق في جرعتين في السنة وقد يكرمني القدر فأحظى بجرعة ثالثة تمتد الواحدة منها 24 يوما. كان قدومه ولازال بداية للحياة وغيابه بداية انتظار الحياة، فبحظوره نحيا وبغيابه نعيش فقط على أمل اللقاء. أية حياة عاشها أبي وأمثاله من الجنود كثر. لم يحضر ولادة كل أبنائه ولم يسمع صرختهم الأولى، لم يشهد خطواتهم الأولى ولاحضر يومهم الأول في المدرسة. بل لقد كنت حاضرا حين رفض أحد إخوتي تلبية دعوة أبي في عناق لأنه عجز عن التعرف عليه. وقد تكرر هذا الحال معنا جميعا حين كنا صغارا إذ كان يلزمنا بعض الوقت لنتصرف معه بعفوية ونجري نحوه كباقي الأطفال. أبي أطفأ شمعة شبابه في الصحراء ورحلات الذهاب والعودة بين صحاري الداخلة ومدينة الريصاني التي تستغرق ثلاثة أيام دهاب وثلاثة أيام عودة، لم يسافر يوما مع أبنائه ولايعرف من هذا الوطن، الذي حرسه طول عمره وحارب من أجله طيلة سنوات الثمانينات، غير الريصانيوالداخلة. أبي أفنى عمره بعين ساهرة على حدود الوطن وعين تحلم بغد أفضل لأبنائه. عزائه الوحيد في سوء حظه من الحياة أن يكون حظ أبنائه أفضل من حظه. كلما كلت قواه تذكر أن كل التضحيات تهون من أجل أبنائه. وأن المدة بين 1979 و 2017 التي قضاها وحيدا في الصحراء لم تضع عبثا. أتساءل دائما أحقا نستحق نحن الأبناء كل هذه التضحيات؟ وكيف لي أن أرد حسن صنيعك وفضلك علي يا أبي؟ لكل الجنود والمهاجرين الذين ساقتهم لقمة العيش بعيدا عن أسرهم، لكم مني ولأسركم كل الحب والحب فقط.