في مثل هذا اليوم 25 مارس من السنة الماضية 2013، انتقل إلى عفو الله، مُعلمي الأول، وملقني أصول التربية والأخلاق، وفن الحياة. التي لم أعثر على نظريات تماثلها، لا في مراكز التكوين العديدة، التي ولجتها، وتخرجت منها أستاذا مربيا، لأكثر من سلك دراسي. ولا حتى في مختلف الكتب التربوية التي تيسر لي الإطلاع عليها، والدي الكادح المكافح، تغمده الله بواسع رحمته. رحل بعد حياة طويلة، حافلة بألوان التجارب والمحن، أكثرها معاناة وتضحيات وألم .. كان رحمه الله، مُعلما فذا، وأستاذا فريدا من نوعه. مع أن قدماه لم تطأ يوما مدرسة، ولا ولج كُتابا قط، ولا قرأ كِتابا، ولا تعلم علما، ولا حظي بتدريب أو تأهيل.. كان مُعلما بالفطرة والدُّربة، والتمرس بدروب الحياة المعقدة الصعبة، ومسالكها المتعرجة الوعرة. ولج مدرسة الحياة مُبكرا من بابها الأصعب، باب اليُتم والفقر وقلة ذات اليد.. حُرم مبكرا من عطف الأبوة وحضنها الدافئ، حتى وهو طفلا لم يدرك عامه الرابع بعد. ثم رزئ بعدها بفقدان الأم، الصدر الحنون، والقلب المتدفق محبة، وحنانا، وعطاء. ليجد نفسه يتيما، فريدا، وحيدا منذ نعومة أظافره، في مواجهة أهوال الحياة وتقلباتها. وقسوة الأهل، وقبح الناس، وظلم المجتمع. لم ينعم طويلا، شأن أقرانه، بدفء الأسرة الصغيرة وحنانها. وما تيسره وتوفره من شروط التمتع بأجواء الطفولة الجميلة، من حماية، وعطف، وحب، ومرح، وشغب، ولعب، وإعتدادٍ بالنفس، وإعتزاز بالأهل، ومتطلباتٍ مادية ومعنوية.. لكنه استطاع لاحقا، بناء أسرة رائعة ناجحة وسعيدة. ترعرع في ظروف قاسية جدا، وتجرع مشاق الحياة ومراراتها لوحده، رغم إحاطة عائلته الكبيرة به. وانتهى به المطاف مبكرا في سلك الجندية إجبارا لا اختيارا، وهو لم يبلغ أشده بعد. فقد انخرط فيها لتأمين معاشه، وتلبية احتياجاته، وبناء أسرته التي حرم منها، وتحقيق توازنه الإجتماعي، وبالتالي ضمان عزته كرامته. مدفوعا بإرادة فولاذية للبقاء والتحدى، والمواجهة والتصدي لصعوبات الحياة وتقلباتها. ولا تخفى على أحد، خصوصيات سلك الجندية في بلد كالمغرب، مع مطلع استقلاله. والقائمة على العمل الشاق المضني، والطاعة العمياء حد الإذلال للرؤساء، وأحيانا التعرض للقهر، والتسلط، والظلم، والإجحاف. كانت تجربة أخرى مريرة، طبعت حياته وبصمتها بندوب، ورضوض، وجروح غائرة. ولقنته الكثير من الويلات، والدروس الصعبة والمؤلمة. وخلفت فيها ما يكفي من آثار وأوجاع .. قدم لوطنه من خلال رحلة الجندية هذه، الكثير من التضحيات والمعاناة والألم، سواء قبل أو بعد تقاعده. لكن هذه الأخيرة، لم تمنحه غير الخيبات والمعاناة، وأجر كالفتات، ومعاش كالزخات، وغير قليل من الحسرات والآهات. أفنى عمره في سلك الجندية بكل مشاقها، ومصاعبها، وأخطارها، وحتى إذلالها. كل ذلك في سبيل الوطن والمواطنين. لم يترك مكانا، ولا ساحة، ولا جبلا، ولا دغلا، ولا رملا، ولا خلاء، ولا جبهة، إلا وقاده إليها واجبه الوطني. ورابط فيه أياما وأياما، والناس نياماً. إما حارسا أو مُرابطا أو مُراقبا أو حتى مُحاربا ومدافعا عن حوزة وطنه، في غفلة من الناس والوطن. وبعيدا عن منصات الخطابة الزائفة، وصالات التتويج الكاذبة، ومقامات التكريم المُجامِلة، ومواسم النياشين والأوسمة الممنوحة. ولم أذكر أنه تأفف يوما من عمله، أو استنكر واجبه، أو عبر عن سخطه أو انفعاله، مما كان يواجهه من أعباء وأعباء.. كان يَبدو راضيا، أو بالأحرى كان يُبدي الرضى، مع أن علامات الإحباط، والمعاناة، والصبر، وأسئلة حارقة تجول في ذهنه، كانت لا تخطئها العين. كان وفيا للقسم الذي أداه، يوم ولوجه هذا الميدان. وظل على هذا الوفاء حتى لقي وجه ربه. أتذكر يوم استقر بنا المطاف، للسكن بثكنة "باب جزائر" في حي "ظهر المحلة" بوجدة، يومها كنت طفلا غض الأفنان والأطراف، كنت أتوجه لميدان التداريب الرياضية العسكرية أنا وأترابي، غير بعيد عن مقر سكنانا، لأتفرج على تداريب الجنود الشاقة جدا والمرهقة. وكيف كنت أشفق على والدي، وعلى زملائه الجنود من قسوة رؤسائهم، ولا إنسانيتهم. وأعجب كيف لم يكن أي أحد منهم، وهم كثرٌ، يجرؤ على الإحتجاج أو الرد، على صرامة، وقسوة، وتجبر، وحتى وقاحة بعض الرؤساء. ولم أكن أدري يومها، أنها شروط الإنضباط العسكري وضوابطه. ولم أدرك ذلك، سوى في وقت لاحق غير بعيد. أتذكر كيف كان يقضي أوقاتا طويلة، تحت زمهرير الشتاء وحرارة الصيف، مرابطا في مهمة الحراسة بمداخل بعض المواقع الحساسة في الثكنة العسكرية، وكيف كنت أقصده، حاملا وجبة فطور، أو غداء، أو عشاء، أو قهوة. فأجده واقفا، صامدا، متيقظا، مدججا بسلاحه على كتفه. وكيف كنت أحاول عند جلوسه لتناول وجبته، العبث بهذا السلاح الذي على ظهره، محاولا استعماله عبثا وبدون جدوى. أتذكر كيف كان يقضي شهورا طويلة في أواسط الستينات، وبداية السبعينات مرابطا على الحدود المغربية الجزائرية، حارسا حريصا على سلامة أرض الوطن، في مراكز المراقبة العسكرية الدائمة آنذاك، على المرتفعات والأدغال الفاصلة بين البلدين الشقيقين. يوم كانت حرب الرمال قد وضعت أوزارها لتوها، مخلفة تداعيات عميقة سيئة وسلبية للغاية، ظلت تفسد العلاقات الطبيعية بين الإشقاء/الأعداء، وتؤجج جبهات التماس على الحدود بين البلدين. أتذكر كيف كان يذهب في سَريته compagnie العسكرية لإجراء التداريب الشاقة على الرماية والعمل العسكري، في مرتفعات تافوغالت ومناطق زكزل، مشيا على الأقدام، من مدينة وجدة. ثم يعود إليها بعد ذلك أيضا مشيا على الأقدام، طول المسافة الفاصلة بين المنطقتين، مُرهقا منهوك القوى، هو وزملاؤه الجنود في مجموعات متتابعة. محملين على ظهورهم بأثقال تزيد على العشرين كلغ. وتحت مراقبة رؤسائهم المُمتطين للشاحنات وسيارات الإسعاف العسكرية، التي تتولى نقل الجنود الذين يتعذر عليهم مواصلة المشي، أو الذين يصابون بضربة شمس، أو بإغماء نتيجة حجم الإرهاق والإنهاك الذي يصيبهم. أتذكر حجم الإرتباك الكبير والمثير، الذي شهدته ثكنة "باب جزاير" ونحن صغارا لا تتعدي أعمارنا عتبة الإحدى عشر سنة، غداة حدوث انقلابي الصخيرات 1970، والطائرة الملكية العائدة من فرنسا1971، وحجم البلبلة والحركة غير العادية، التي شهدتها الثكنة التي كنا نقطن بحيها السكني. واستنفار جنود الفوج السادس للمشاة 6eme Battaillon وتحديدا السرية الثالثة 3eme Compagnie التي كان ينتمي إليهما والدي المرحوم. وكيف تم نقلهم لتأمين حراسة ومراقبة بعض الأماكن والمواقع الحيوية آنذاك. كلها أحداث تتراءى لي في ذاكرتي، تبدو فيها صورة والدي المرحوم، مناضلا، مكافحا، صامدا، مخلصا يؤدي واجبه المهني بانضباط، ومواظبة، وتفان.. أتذكر يوم تقاعده سنة 1974 وكيف كان يوما عاديا، لكن حزينا بالنسبة له، نظرا لفراق زملائه وأصدقائه الجنود. وبالنسبة لنا، لأننا كنا سنغادر مراتع الطفولة الجميلة والأصدقاء والجيران، بحي ثكنة "باب جزائر". لم تُقم له لا مراسيم تكريم، ولا مراسيم وداع، ولا أي شيء من هذا القبيل. سوى من استلامه لشهادة مُعنونة كالتالي: شهادة التفاني والوفاء. وتحمل بالإضافة إلى معلوماته العسكرية (رقم الإنخراط الرتبة عسكرية..) سطرا واحدا، كتب عليه ما يلي: يشهد الرائد x آمر الفوج السادس للمشاة، أن العريف أول أحمد أعويدي، قد أدى خدمات بتفان وإخلاص للملك والوطن. هكذا يكرم الوطن أبناءه، بعد رحلة التضحيات والمعاناة. ورقة بيضاء مختومة وموقعة، ومعاش هزيل زهيد مخجل، لا يسمن ولا يغني من جوع. وندوب كثيرة في الذاكرة وفي الجسد !. بعدما ابتلعنا جميعا غصص الفراق والرحيل، شددنا الرحال عائدين إلى مدينتنا، أو بالأحرى قريتنا الجميلة القصية العروي، سنة 1975 في ضواحي مدينة الناظور. عازمين على استمرار رحلة الحياة، والمضي في المسيرة من جديد. وفي الوقت الذي بدأ فيه رحمه الله، يُلملم خيباته، ويتأقلم مع وضعه الجديد كمتقاعد، ويحاول أن ينعم بقسط من الراحة، بعد عناء رحلة الجندية الطويلة. وفي الوقت الذي بدأنا نعتاد على تواجده المستمر في أحضان البيت. عرف المغرب تنظيم المسيرة الخضراء، التي توجت باسترجاع صحرائه السليبة، واندلاع المواجهة المسلحة غير المباشرة مع الجزائر، عبر ذراعها المرتزق البوليساريو. وما نجم عن ذلك من هجمات مباغتة، وتفاقم الخسائر العسكرية في صفوف الجنود. مما دفع القيادة السياسية للبلاد، إلى استدعاء جنود الإحتياط، بمن فيهم المتقاعدين، للإستفادة من تجاربهم، والإستعانة بخدماتهم. كان والدي المرحوم واحدا منهم. وهكذا حتى بعد تقاعده، وبعد الرحلة الطويلة من التضحيات والتفاني. وبعد الموعد المشؤوم الجاف، ليوم الإحالة على التقاعد، وكيف تنكر الوطن لما قدمه من تضحيات وخدمات، وعُمُر كامل من المعاناة والآهات، لم يتردد ولو للحظة واحدة، في الإستجابة لنداء الواجب والوطن، بهمة عالية، ووطنية وإخلاص ونكران ذات. وتوجه للمشاركة في حماية حوزة الأراضي المغربية في الصحراء، وتأكيد مغربيتها. حيث جاور الموت والإستشهاد بعزيمة، وإرادة صلبة لا تتزحزح، حتى وهو في سن تشارف على الشيخوخة. فقد قبِل الإلتحاق بأرض الصحراء المغربية، بعيدا عن الأهل والأسرة والأبناء بآلاف الأميال، ليرابط هناك للدفاع عن حوزة البلاد، بأريحية ونكران ذات. في ظل ظروف صعبة، محفوفة بأشكال التحديات والمخاطر والموت المتربص. وسط بيئة صحراوية قاسية، وشروط عيش وتموين بالغة التعقيد. رفقة مجندين شباب، حديثي العهد بالجندية. تنقصهم الخبرة، والحنكة، والتجربة الكافية لمثل هذه التحديات. وهو ما كان يُمثل مبعث تحدٍ إضافي له. فقد كان بالإضافة إلى اضطلاعه بالأعباء العسكرية، التي تستوجبها جبهة المواجهة هناك، يقوم بخدمة، وأيضا تعليم زملائه المجندين الشباب، كيفية تهيء وطبخ وجباتهم الغذائية، وكيفية التأقلم مع مصاعب البيئة الصحراوية الوعرة، وكيفية التعاطي مع الأخطار المحدقة. كانت يومياته هناك، في الجبهات الأمامية للمواجهة، مصدر تحدِّ وخطر حقيقي. بالنظر إلى اعتماد العدو أسلوب المباغتة في الهجوم، وانتقاء الأوقات المفاجئة، للضرب الغادر على حين غرة. حتى أن مركز المراقبة والمعسكر الذي كان يشرف عليه، تعرض غير ما مرة لهجمات مباغتة، من قبل مرتزقة الجزائر البوليساريو. وقد نجى بأعجوبة وبإرادة إلهية من الموت المحقق عدة مرات. وكان قد شهد رفاقه في السلاح، وهم يستشهدون أمام عينيه من أجل الوطن. حتى أنه في إحدى المرات، انتشرت إشاعة بين رفاقه هناك، بلغ مداها بيتنا في العروي، مفادها أنه قد استشهد وفارق الحياة، في إحدى المواجهات. يومها جرّبت ولو أن الأمر كان إشاعة كاذبة، وأنا في سن الثامنة عشر من عمري، زلزال اليُتم وقسوته، وتأثيره السلبي العميق في النفس. وتذكرت معاناة والدي الكبيرة معه، منذ نعومة أظافره. لكن شاءت الأقدار أن يكون الأمر إشاعة، وأن يمد الله في عمره، ويتوفي أجله على فراش بيته، وهو في سن متقدمة. كان هذا غيظا من فيض رحلة التضحيات الكبيرة، التي قدمها هذا الرجل المعطاء للواجب وللوطن، من دون أن ينتظر يوما جزاء ولا شكورا من أحد. فقد كان مؤمنا بواجبه الوطني أشد الإيمان. ولم يكن ينتظر تكريما، أو توشيحا، أو مجاملة من أي جهة كانت. ويكفيه أن هذه التجارب الكبيرة والمريرة التي خاضها، برغم قسوتها، قد صنعت ونحتت منه أباً مثاليا رائعا، ومُعلما مُربيا ناجحا، وإنسانا قنوعا مكتفيا، وشخصا بشوشا مبتسما، ورجلا مرحا محبوبا على الدوام. صنعت منه بالمجمل إنسانا بسيطا، لكن عظيما في نفس الوقت. عظيما بتواضعه وبساطته، عظيما بكفاحه ونضاله، بصبره على البلاء وتجرعه للمحن، بإخلاصه وتفانيه، بأبوته النادرة الرائعة، بدعابته ومرحه، ببذله وعطائه، بإيثاره ونكران ذاته، بطيبوبته وإنسانيته.. فقد أحبه وقدره، كل الذين عرفوه لأول وهلة. كان حديثه مع الجميع يجمع بين الحكمة والدعابة والمرح. يزرع الإبتسامة حيثما حل وارتحل. وهذا سر قوته، ومبعث حب الناس له. كان صديقا حميما مرحا للجميع. لأقرانه من الشيوخ والكهول، وأيضا للشباب والصغار، وحتى الأطفال منهم. تذوب في حضرته تباينات، واختلافات، وحتى صراع الأجيال. لا تكاد تشعر معه بضيق، أو ملل، أو سأم، أو حزن، أو كآبة، أو نفور. يمزح ويمرح مع الجميع، بتلقائية وطيبوبة قل نظيرهما. كان سلاحه صرامته وجديته في بعض الأوقات، وابتسامته ومرحه الطفولي في أوقات أخرى. كان لأبنائه مربيا صارما، وأبا حنونا عطوفا، وصديقا بشوشا مرحا، وحاضنا مُتيقظا حريصا، ومُنفقا سخيا كريما معطاء.. لم تكن له لا تطلعات، ولا تسلقات، ولا رهانات، ولا صفقات. كان كل همه ورهانه، هو تربية أبنائه، تربية سليمة صارمة. وحرصه على تسليحهم بالأخلاق الطيبة، وبسلاح العلم والمعرفة. ودفعهم إلى ركوب أمواج الحياة وأهوالها، بالإعتماد على النفس والذات. كان يرغب أن لا يرى تجاربه المريرة تتكرر مع أبنائه. لكنه مع ذلك كان يحرص بوازع العطف الأبوي الرائع، على متابعة كل أمور أبنائه وحتى أحفاده. الصغيرة منها والكبيرة. رغبة منه في الإطمئنان على أحوالهم وأمورهم.. لقد كان رحمه الله قدوتي التي أقتدي بها، ومثلي الأعلى، ومصدر إلهامي وعطائي. فقد لقنني هذا الرجل العظيم، عصارة تجاربه الكبيرة مع الحياة. لم يتوقف يوما عن لعب هذا الدور الرائع، وتبليغ هذه الرسالة النبيلة. فحتى وقد بلغتُ من العمر عتيا، ومارست مهنة التعليم ردحا من الزمان، كان لا يكف عن تزويدي بالنصح والتوجيه والتذكير. حتى أنه قد صنع مني أو كاد، جنديا مكافحا، صارما وعنيدا في تأدية واجبي الأسري، والمهني، والإجتماعي، بقتالية ولا هوادة. وبصدق ونكران ذات. علمني أن القتال والتضحية، لا يكونان في ساحات الوغى والشرف العسكري فقط، بل أيضا في كل جبهات وساحات ومساحات بناء هذا الوطن العزيز. كانت حياته الحافلة بالتضحيات، والنضال، والمعاناة، والفرح، والمرح، والطيبوبة، والإنسانية.. وكل القيم الجميلة الرائعة.. أكبر وأهم دروس، مليئة بالمواعظ والعبر والحكم، تلقيتها في حياتي. لم أكن لأتلقاها، لا على مقاعد الدرس، في مختلف مسالك المشوار الدراسي الطويل. ولا على يد فطاحل الأساتذة، وأكثرهم نبوغا وجدارة، من الذين كان لي شرف التتلمذ على أيديهم. فقد علمني أن الحياة رحلة عابرة تافهة ينبغي عبورها بأقل الخسائر وأكبر المكاسب. علمني أن الرجال معادن، فيها النفيس وفيها الرخيص. علمني أن الصبر مفتاح المهمات والملمات والنوائب. علمني أن ألتمس الحق حتى في أحلك الظروف. علمني الإخلاص في أداء الواجب والعمل حتى مع ألذ الأعداء. علمني أن الإبتسامة والمرح، مفتاح القلوب الموصدة. علمني أن الإنتقام عدالة التافهين. علمني أن لا علم بدون أخلاق. علمني السماحة والصرامة، والصراحة والعدل، والشدة والرأفة، والصبر والقوة، والفرح والمرح، والسعادة والحكمة، والكرم والتواضع، والتعاون والرفق والإعتدال... لقد كان رحيله خسارة كبيرة حاقت بي. هزت كياني، وزلزلت دواخلي وبعثرت أوراقي. فحتى وأنا في سن الرجولة، بل والكهولة، أحسست كأني طفلا فُطم عن أمه، أو كأن شيئا غاليا انتزع مني انتزاعا. ولا عجب، فقد ظل رحمه الله طول حياته، يتفقد أحوالي وأحوال أبنائي/حفدته، وأحوال كل إخواني، بحرص نادر، واهتمام شديد، وأيضا بفخر واعتزاز كبيرين. حتى وهو على فراش المرض، الذي نال منه كثيرا، كان لا يهدأ له بال، سوى بعد الإطمئنان على الجميع. حقا كان أبا ومعلما ومربيا رائعا ونادرا. كان رحيله مُؤثرا ومُدويا، ومُخلفا لفراغ كبير، لا يمكن لأحد أن يشغله سواه. لقد رحل هذا المعلم العظيم رحمة الله عليه، بعد معاناة طويلة مع المرض، وسيظل إرثه الكبير، نبراسا ينير طريقي، ويزودني بالزاد والمدد، متى ما تقطعت بي السبل، أو تاهت بي الطريق. كان هذا جزءا يسيرا، من مشوار وميراث هذا الرجل المتواضع البسيط، والمعلم المحنك الكبير، الحافل بالدروس والعبر، الذي هو والدي..
نم قرير العين يا أبتي، يا أيها المعلم الكبير، رحمك الله وجازاك عنا خير الجزاء إن شاء الله.