"اسكرينيا" فضاء الطفولة الذي نقش في مخيلتي ذكريات جميلة لا يمكن أن تنسى، إذ في ذاك الحي، وهو الذي كان يسمى في حقبة التواجد الكولونيالي بالمدينة بالحي الاسباني. في هذا الحي الجميل والنظيف تررعنا ومرحنا، ملءنا الدنيا شغبا طفوليا بريئا، وتركنا في كل زاوية من زواياه حكاية أو قصة تستحق أن تروى. عبد الرحمان، عبد العزيز، حميد، عبد الله، محمد، رضوان، احمد…. وآخرون كثر هم رفقاء الحي وأصدقاء الطفولة. فقد كانت "اسكرينيا" بالنسبة لنا مملكة كبيرة نحن قادتها والساهرون عليها. سأقص اليوم حكاية صديقنا "احمد".. أتذكره جيدا، فقد كان فتى يكبرنا بسنتين أو أكثر بقليل، لم يسلم أحد من رفاقنا من "تفليقة" في الرأس كان هو بطلها، بل منا من اضطرت أسرته لتنقله للمستشفى لخياطة جرح غائر في رأسه. المهم كان "احمد" كثير الشجار معنا، ولا يمر يوم دون أن تكون له "مدابزة بالحجار"، مما جعلنا نأخذ كافة الاحتياطات حتى لا ينالنا نصيب من حجارته. كما كنا نحفظ "لازمة" عن ظهر قلب لم تفارقنا يوما، وهي "شكون تفلق اليوم". لم يكن لأحد أن يتوقع ردة الفعل عند"احمد"، فقد يؤجل "تشياره" بالحجارة ليوم أو يومين، حتى ليخيل لمن تخاصم معه أو استفزه أنه نسي الأمر، لكنه وفي حالات كثيرة وقد أرخى الليل ستائره، يباغثتا جميعا ونحن متحلقون في ركن من الحي وبيننا "صديقه اللدود" الذي استفزه قبل يوم أو يومين بوابل من الحجارة تتساقط علينا ونحن نحمي رؤوسنا منها، حتى لا تترك فينا جراحا نضطر معها لرتقها في المستشفى. لم يكن "احمد" يخيفنا إطلاقا، على عكس أمه، تلك المرأة السمينة التي تطلق العنان لحنجرتها لتسب أو تلعن من اقترب من محيط بيتها من الأطفال، وكأن صافرة إنذار انطلقت وأبت أن تتوقف. كانت الأمهات تحذرنا من الاقتراب من بيتها أو التعرض لابنها "احمد". فقد كن يرددن دائما، (هاداك راه احمق بالوراق، وإذا ضرب شي واحد تمشي عليه باردة!!). وفي يوم ما قررنا نحن الأطفال أن ننصب له كمينا محكما، فقد كان دائم التحصن بفضاء الحي، ولا يبارحه إطلاقا، وفي يوم من الأيام سنحت لنا الفرصة الذهبية لتلقينه درسا لن ينساه. ففي ذاك اليوم المعلوم، اختطف الموت أحد رفقائنا، إنه صديقنا "عبد الله" فقد أصيب بالتهاب السحايا، وقد رافقنا جثمانه في جنازة مهيبة شارك فيها الحي بأكمله صغارا وكبارا، الكل يبكي "عبد الله"، فيما نسوة الحي وَدَّعْنَهُ بالزغاريد. وحينما فرغنا من مراسيم الجنازة وانصرف من انصرف من الكبار، مكثنا نحن الأطفال جوار القبر الصغير في مشهد لم تستوعبه عقولنا الصغيرة إذاك، كانت مشاعرنا ملؤها الحنق والغضب.. لماذا "عبد الله"؟؟!! لقد كان كنسمة هواء.. بشوشا، طيبا، عزيزا على قلبنا جميعا. لماذا لم يصطفي الموت منا "احمد"؟؟، لقد كان أشدنا خبثا وعنفا، إنه لم يترك في رؤوسنا مكانا إلا ووشم فيه "تفليقة" بحجارته الغبية. إلتففنا جميعا حول "أحمد" وقد ارتعدت فرائصه من شدة الفزع، إذ ارتسمت على محيانا مشاهد الانتقام والثأر. أكل صديقنا "احمد" من أيدينا "سلخة" لم يأكلها أحد من قبله ولا من بعده، كانت له درسا قاسيا، لم يخرج ليلاعبنا مدة شهر. أما نحن، فقد كنا نظن أن "أم احمد" ستقيم القيامة في ذلك اليوم بسبب فعلتنا، لكن شيء من ذلك لم يحصل، فقد أحجم "احمد" عن سرد ما لحق به لوالدته مخافة الانتقام منه مجددا.