عند ما كان ابن خلدون يضع قواعد نظريته الاجتماعية عبر التأسيس لأحوال العمران عند العرب، لم يكن يتحدث أو بالأحرى يكتب من فراغ، تماما عندما خط والدينا وأجدادنا بيوتهم في المدينة العتيقة بدون بلان، إلا من مسحة جمال فطري، لا أدري إن كانوا وعن غيرقصد وضعوا تطبيقات منسجمة لتصور هذا المفكر الخالد الذي سبق عصره، فبت تشهد دروبنا ودورنا وأقواسنا وصاباتنا المتهوية والجميلة، قبل أن تمسها يد آثم غير متذوق، سمح بمسح معالمها ونسقها العمراني وبنائها الفني الحافظ للضوء والظل والبرودة والحرارة بتغير الفصول كما هو حبس الصوت في جلساتهم الحميمية … أو إطلاقه على عواهنه عند أعراسنا ومآتمنا التي لا تنتهي، وكما تكلم ابن خلدون عن العمران، وعرفه أنه هو التساكن والتنازل في مصر من الأمصار لاقتضاء الحاجات لما في طبائع الناس من التعاون على المعاش، كذلك نظر لقواعد التخطيط الحضري وأصول وعوامل نشأة الحضارة والمدنية، وعرف التصميم قبل أن يتكلم عنه رابوبوت، وفي حديثه عن العصبية وأثرها في العمران، لم يكن ابن خلدون يقصد جاهليتها التي نشهدها اليوم أو تلصق كذبا بأحيائنا البريئة … والجميلة، بل كان يقصد التآلب والتضامن المجموعي الذي عشناه في دروبنا الواطئة ومصالحنا المتداخلة كمجموعات ضمن نظام اجتماعي محكم ومفتوح على داخله، مغلق على خارجه، داخله مفقود وتائه في متعه وغرائبه، والخارج منه مولود بأفكاره وحكمه وتطبعه، يؤثر فيه ويطبعه ذاتيا سلوكيا ووجدانيا فلن ينساه ما حيي، غير أن ابن خلدون في معرض حديثه عن العمران، لم ينسى الانحطاط الحضاري وتخلف صناع القرار العمراني، أو بلغة العصر، مسئولو التعمير من حيث التفريط في الطابع الأصيل والمحلي في البناء مع هذه الطفرة المريضة في التهيئة التي تعرفها مدننا العتيقة وهذا الترخيص البشع لعمليات التجديد البنائي على حساب ما تبقى من لمسة أندلسية أحيانا ودونما دراسة لجمالية الفضاء أو مستويات العلو التي لم تتورع عن حجب صوامع وجوامع وزوايا، وعبر رخص توزع أحيانا لمجرد محاباة هيئة ناخبة مستوطنة في الغالب، لم تقدر الجمال حق قدره، وحازت بفهلوة مساكن وفرارين رائعة عجز العديد من الورثة عن الحفاظ عليها لضعف الحال، كما عجزنا جميعا عن إدراجها ضمن الثرات الإنساني … ؟ ومثلما أحياؤنا القديمة، كانت لا تعرف الفقر، فالكل منصهر ومتضامن حتى لا تعرف من عيد لمن ومن زوج عانسا أو شابا مفتقرا إلى ربه، ومن جنز ميتا مقطوعا من شجرة، كذلك لم تشهد دروبنا يوما بهرجة وكاميرا توثق لتوزيع أضحية العيد على مساكيننا، الكل كان يعيش في أنفة وحبور لا تقطعها سوى أصوات زغاريد أو نحيب صبايا بحسب أحوال العباد فكان الجميع يتهافت ويهجم، وبدون سابق استدعاء أو عرضة حتى … ليقوم بالواجب، ولأصحاب التعمير و هواة العلو المغالى فيه، وناس الأمن أيضا، أشير أن سطوحنا كانت فضاءات مفتوحة، واطئة بدون سترات، فكان لك الخيار أن تدرأ من واحد لآخر جيئة وذهابا بشكل سماوي إذا عجزت أو قالت لك قرينة رأسك بأن لا تنزل للأرض، فتدخل، وأنت طفل، باب سطح لتخرج من سطح آخر، مثلما كنا ندخل وقت شقاوتنا من أي باب مفتوحة عندما تزنزن ذبابة سينما بيريس كالدوس في أذن أينا، فيبقى في السينما، كونطنوا، حتى منتصف الليل، وحتى ينتهي جيتندرا من أمه الأرض، ولاعليك، يمكنك بعد ذلك، أن تنام في أي بيت تريد، فأبواب منازلنا تبيت مفتوحة، لتجنب علقات الوالد الموعودة، والمفتقدة الآن، لتأخذك أمي الكنيكسية أو أمي الجميلية… وكلهن أمهات، حتى بيتكم في الصباح ولا من يجرؤ على ضربك، لقد كانت الكلمة، وكان العهد، يتعاقد عليه ناسنا في جوامعنا وزوايانا وكتاتيبنا الآيلة للسقوط الآن، حيث تاب مشرملونا ، وزفت كل عرائسنا وعرساننا، وقرأت الفاتحة في انطلاق حملاتنا الانتخابية الكيرى منذ الستينات، وزف أباؤنا مرشحهم الوحيد ضدا على السلطات بدون زيت أو طحين، أو رخص نقل البضائع حتى … وللإختراق مرة، نجحت السلطة أن تعين عندنا مؤذنا عون سلطة، لكنه سرعان ما انبهر بعالمنا فانصهر فيه، ، فأصبح سمنا وعسلا معنا، فتزوج الثانية والثالثة من نسائنا الرائعات، ولم يكن ينقل سوى الجميل عنا لسلطاتنا … إلى أن بكيناه جميعا رحمة الله عليه … ولعل تعميرنا المفتوح ذاك ترك أثره على نسائنا كما رجالنا، المرأة بهيمنتها وسحرها وتحررها، كما طنيزها الجميل، من فوق السطوح المفتوحة، و الرجل غير متسوق أو ممانع وهو ينقل لحما يوميا أو شرك شابل لم يكن قد انقرض بعد، تحت جلابته الفضفاضة، وكلمة هودي … التي كان يطلقها، فنسارع أطفالا من كل مكان، ولعله العمران الفوضوي، من حول دروبنا إلى ما يشبه كيتوات، ومن جعل شبابنا وشاباتنا تضيق أنفاسهم بعدها بضيق الحال والإهمال، فقفزوا قبل الوقت ضدا على الكتاب الأخضر وقوانين شينكن والمتوسط، حيث وصل بعضهم وبعضهن لأمريكا والقطب المتجمد … لكي لا تلصق بهم حكاية التشرميل الوافدة الجديدة، تلكم بعض من نوستالجيا المدينة العميقة، حكيت عن قصد بعض العالق في ذهني عنها، وهو فيض من كثير، أتمنى أن يحرك عاطفة الأصدقاء من المشتغلين بشأنها الآن، والساعين لاشك إلى النهوض بجماليتها تبليطا وتزليجا، كما هي دعوة لأبناء المدينة العاديين كما المهندسين والمعماريين، الذين كثير منهم لم يكتب لهم عيش حلاوة هذه الدروب التي لم تكن متسخة يوما، يوم عاش فيها آباؤهم وأجدادهم، ويدرك الجميع أن تعمير المدينة العتيقة، في حاجة إلى مقاربة أخرى، فلعلنا نقدر على جعلها ثراثا إنسانيا على طريقتنا ، والحفاظ على معمارها وعمرانها وحمايتها من لوبي العقار، وبورخيخص، المستغل لفقر الآخرين، فمن يدري قد تتمكنون، أيها الأصدقاء ، مدبرين وفاعلين، من جعلها على شاكلة دروب ورياضات مراكش، فلربما يعود للاستيطان فيها … فقراء اليهود والنصارى الهاربين من الحرب والأزمة، فيعيدون لها رونقها، بعد أن عجزنا نحن، مثلما عمر أثرياء العالم … دروب وخربات مراكش … الثمينة.