الملك محمد السادس يعين الأعضاء الجدد باللجنة الوطنية لمراقبة حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي    إعلان نوايا مشترك بين المغرب والبرتغال لتعزيز العدالة في إطار كأس العالم 2030    ريما حسن في قلب العاصفة.. اتهامات بالولاء للجزائر وخسارة للمصداقية في المشهد السياسي الفرنسي    التعاون المغربي الموريتاني يُطلق تهديدات ميليشيات البوليساريو لنواكشوط    ترامب يطلق أكبر عملية طرد جماعي للمهاجرين غير النظاميين    توقيع عقد مع شركة ألمانية لدراسة مشروع النفق القاري بين طنجة وطريفة    كرسي الآداب والفنون الإفريقية يحتفي بسرديات "إفا" في أكاديمية المملكة    الذكاء الاصطناعي.. (ميتا) تعتزم استثمار 65 مليار دولار خلال 2025    على خلفية مساعي ترامب لزيادة حجم الإنتاج...تراجع أسعار النفط    الدرك الملكي يحجز طن من الحشيش نواحي اقليم الحسيمة    "حماس" تنشر أسماء المجندات الإسرائيليات المقرر الإفراج عنهن السبت    دوامة    معرض فني جماعي «متحدون في تنوعنا» بالدار البيضاء    الفنانة المغربية زهراء درير تستعد لإطلاق أغنية « جاني خبر »    رواية "المغاربة".. نفسانيات مُركبة    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    ترامب يرفع السرية عن ملفات اغتيالات كينيدي ولوثر كينغ    مجلس الشيوخ التشيلي يدعم مقترح الحكم الذاتي المغربي للصحراء    مهدي بنسعيد يشيد بحصيلة الحكومة ويدعو لتعزيز التواصل لإبراز المنجزات    محاكمة بعيوي في قضية "إسكوبار" تكشف جوانب مثيرة من الصراع الأسري لرئيس جهة الشرق السابق    الصيد البحري : تسليم 415 محركا لقوارب تقليدية لتحسين الإنتاجية والسلامة البحرية    وزارة الشباب تكشف عن "برنامج التخييم 2025" وتستهدف 197 ألف مستفيد    اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس: خطوة أولى نحو السلام أم محطة مؤقتة في طريق الصراع؟    الكعبي يتجاوز مواطنه العرابي … ويدخل التاريخ كأفضل هداف اولمبياكوس في المباريات الاوروبية    إضراب عام يشل حركة جماعات الناظور ليوم كامل احتجاجا على تغييب الحوار    تركيا..طفلان يتناولان حبوب منع الحمل بالخطأ وهذا ما حدث!    السلطات البلجيكية تحبط محاولة استهداف مسجد في مولنبيك خلال صلاة الجمعة    معهد التكنولوجيا التطبيقية المسيرة والمعهد المتخصص في الفندقة والسياحة بالحوزية يحتفيان بالسنة الأمازيغية    العطلة المدرسية تبدأ مع طقس مستقر    تراجع التلقيح ضد "بوحمرون" إلى 60%.. وزارة الصحة في مرمى الانتقادات    "الطرق السيارة" تنبه السائقين مع بدء العطلة المدرسية    عمدة المدينة: جماعة طنجة لن تدخر أي جهد لجعل المدينة في مستوى التظاهرات الدولية وتطلعات المواطنين    اعتقال وحش آدمي تسبب في وفاة ابنة زوجته ذات الثلاث سنوات    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    تعيين الفرنسي رودي غارسيا مدربا جديدا لمنتخب بلجيكا    الكونفدرالية المغربية للمقاولات الصغيرة جدا والصغرى: مشروع قانون الإضراب غير عادل    بورصة البيضاء تفتتح التداول بارتفاع    الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة…انتشار حاد لفيروس الحصبة وفقدان أرواح الأطفال    تنفيذا لتعهدات ترامب .. أمريكا ترحل مئات المهاجرين    السكوري: مناقشة مشروع قانون الإضراب تتم في جو عال من المسؤولية    تداولات الإفتتاح ببورصة البيضاء    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    لقجع ينفي ما روجه الإعلام الإسباني بخصوص سعي "فيفا" تقليص ملاعب المغرب خلال مونديال 2030    العصبة الوطنية لكرة القدم النسوية تعقد اجتماع مكتبها المديري    مايك وان" يُطلق أغنية "ولاء"بإيقاع حساني    سيفعل كل شيء.. سان جيرمان يريد نجم ليفربول بشدة    رقم قياسي .. أول ناد في العالم تتخطى عائداته المالية مليار أورو في موسم واحد    تضارب في الأرقام حول التسوية الطوعية الضريبية    ما هو سر استمتاع الموظفين بالعمل والحياة معا في الدنمارك؟    تألق نهضة بركان يقلق الجزائر    جوائز "الراتزي": "أوسكار" أسوأ الأفلام    الحكومة تحمل "المعلومات المضللة" مسؤولية انتشار "بوحمرون"    عبد الصادق: مواجهة طنجة للنسيان    تعرف على فيروس داء الحصبة "بوحمرون" الذي ينتشر في المغرب    أخطار صحية بالجملة تتربص بالمشتغلين في الفترة الليلية    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فن المعمار بالمغرب .. تنظيم رمزي و إبداع جماعي

«محمد مطالسي، معماري ودكتور في علم الجمال، هو أحد الباحثين القلائل في المعمار المغربي والعربي، ليس من الزاوية «التقنية» بل باعتبار المعمار رموزا وتعبيرات جمالية عن الحضارة. من ثم يصبح المعمار أحد التجليات الإبداعية للحضارة، تماما كالشعر والموسيقى والنحت والرقص الخ. في هذا النص يقارب مطالسي أشكال العمران والبناء في الحضارة العربية الإسلامية من منظور يعتبر مورفولوجية المدن العتيقة مرتبطة بالتراث أكثر مما كانت متصلة بتنظيم موضوعي. وذلك لكون الفنانين الزخرفيين، في العالم الإسلامي كانوا يخضعون لقواعد أخرى هي غير القواعد الفنية المحض، إن التجريد، خلافا لما يعنيه الفن التجريدي اليوم، «لم يكن أبدا نتيجة نابعة من جوهر الفن ذاته. و إنما كان مجرد احترام للمعايير و تحقيقا لفن شرعي. من هنا تلك الصلة التي كانت تربط «الفنان» بالضرورات الاجتماعية، بحيث لا يمكنه التعبير عن نيته الجمالية إلا في علاقتها بثنائية الحلال و الحرام»
من بنى مدينتي فاس و تونس، و هما من أجمل وأشهر المدن الإسلامية؟ و من بنى غرناطة، عاصمة الأندلس، و مراكش، المدينة الحمراء صاحبة الأولياء السبعة؟ ثم من ذا الذي شيد القرويين و الزيتونة و صومعة الكتبية؟ من وضع تصميم أشكال الفسيفساء و الزليج و كل الروائع الزخرفية و التزيينية التي تؤثث أرضية و أسوار و سقوف تلك الآثار التي تثير إعجاب الزوار؟
أمام هذه الوفرة، و هذا التنوع المعماري و الفني، يواجهنا غياب، هو غياب مصممي هذه الروائع، بل إن مبدعي الآثار الجميلة المميزة للهندسة المعمارية الإسلامية ظلوا عموما غير معروفين. 1فمن هم الذين شيدوا قصر الحمراء بغرناطة، أو صومعة حسان بالرباط؟ و كيف كانوا يشتغلون؟ و ما هي الأدوار التي لعبوها؟ و ما نوعية الوعي الذي كانوا يتوفرون عليه إزاء نشاطهم و عملهم؟ ثم ما طبيعة العلاقات التي كانت تربطهم بالمثقفين و رجال السلطة؟
مثل هذه الأسئلة ظلت، لمدة طويلة، بدون أجوبة. ذلك لأن غياب سيرة ذاتية لهؤلاء المهندسين المعماريين، و هؤلاء الفنانين، لا يخول لنا إمكانية فهم التصور الذي كانوا يحملونه عن مهمتهم، و عن إجراءاتها و أسرارها، و كذا معرفة اختياراتهم الجمالية، و ثقافتهم الأدبية و التقنية، و علاقتهم بالدين؟ كل هذه التساؤلات تنطوي على التعارض الموجود بين طريقتين اثنتين من طرق البناء:
طريقة غفلية ، وتعني تعدد الصانعين الذين شيدوا، في الظل، تاريخ البناء؛ و طريقة تعتمد على شهرة المهندس المعماري أو الفنان اللذين يقدمان نفسيهما بوصفهما متعهدين أساسيين.
بخصوص تاريخ المدن العتيقة، نعرف البنايات و الرعاة الذين تحكموا فيها أكثر مما نعرف الفنانين الذين أبدعوها. نتحدث عن الهندسة المعمارية للمرابطين و الموحدين و المماليك إلخ.
بينما لا نكاد نقول شيئا عن أسماء المهندسين المعماريين أو أصحاب الأعمال. بخصوص هؤلاء، لا نجد أنفسنا سوى أمام افتراضات و احتمالات في غالب الأحيان. الشيء الأكيد، في جميع الحالات، هو أن مثقفي العصر الوسيط لا يذكرون أبدا، حسب علمنا، الدور الاجتماعي و الثقافي الذي لعبه مشيدو المدن العتيقة. كان هؤلاء المثقفون يعبرون عن إعجابهم إزاء الأعمال الهندسية المعمارية، و ليس إزاء أصحابها و منفذيها الذين لم يكونوا، مع ذلك، مجهولين في مدنهم و عصرهم كما يريد البعض أن يقول.
ينبغي التمييز بين ثلاثة مستويات في عملية التشييد : التنظيم العام لإطار المدينة المشيد، أي تنظيم المدينة، و تصميم الفضاء المعماري و إنجازه، و أخيرا إنتاج الأشكال الزخرفية.
من ذا الذي كان يطلق عليه اسم «المهندس المدني» أولا؟ هذا إذا ما أمكننا استعمال المصطلح الذي ظهر في نهاية القرن التاسع عشر في أوربا. وبالطبع، فقد قام الجغرافيون المسلمون برسم الخرائط، مثلما رسم علماء الفلك تصاميم المدن تبعا لاتجاه القبلة، لكن ليس هناك أي مصدر يجعلنا نقر بأن الثقافة الحضرية للإسلام قد أنتجت تصاميم موجهة، و عموما، إذا قصد المرء بلفظ «تصميم» : التمثل القبلي و توضيع objectivation الفضاء»، فإن الإسلام يوفر لنا مدنا بدون خطاب مقرر سلفا، على الرغم من أن بعض هذه المدن هي إبداعات مشيدة لفائدة أمير، مثل المدينة الدائرية الشهيرة بغداد خلال القرن الثامن الميلادي.
غير أن للمدن العتيقة، مع ذلك، تنظيما دقيقا للإطار المشيد، و انسجاما داخليا يتجلى في : وجود القصبة في الخارج، الموقع المركزي للمسجد الكبير و سوق المنتوجات النادرة و النفيسة، الفصل الديني و العزل الإثني في بعض المدن، تمييز الأماكن الاقتصادية و أماكن الإقامة، النوطين الطوبوغرافي الوظيفي للأنشطة الحرفية.
هذا المنطق المميز المحكوم بحذق و بمعرفة و بحس تجريبي مرتبطين بممارسات حرفية و بتمثلات اجتماعية. لقد كان تشييد مورفولوجية المدن العتيقة مرتبطا بالتراث أكثر مما كان متصلا بتنظيم موضوعي. أي أنه كان نتيجة نظام اجتماعي مخصوص. كانت الأزقة و الدروب و الممرات المغلقة تبنى بموازاة تشييد باقي فضاءات المدينة، أو أي هيئة أخرى تهتم بالتنظيم الفيزيائي للمدينة. فهل استطاع الفقه الإسلامي، على الأقل، بلورة فقه يعني بمعمار المدينة و يكون هو المتحكم في عملية إنتاج الفضاء؟ بكل تأكيد، فإن التجمع المكثف للسكان، و الشبكة المتداخلة للدروب و الأزقة التي كانت دائما سبب نشوب نزاعات و خصومات حول حقوق الدخول إليها، و حقوق الإصلاحات و الأسوار المشتركة و المرافق الكاشفة، أمور لم يكن بالإمكان استبعادها من الفقه الإسلامي. و في هذا الصدد يقدم لنا مخطط ابن الرامي، وهو معلم بناء من تونس خلال القرن الرابع عشر الميلادي، 2بكل وضوح، عادات العصر الوسيط المرتبطة ببعض النقط الملموسة الخاصة بالتقنية و الحق المستعملين في البناء. لقد كانت مشاكل تنظيم الفضاء، بالنسبة لهذا المؤلف المالكي، مرتبطة أساسا بمسألة «الحقوق و الواجبات المتبادلة بخصوص الجوار». لقد كانت الفكرة السائدة هي حرية كل فرد في التصرف فيما يملكه و الاستمتاع به و استعماله بكيفية مطلقة، بدون أن يلحق الضرر بجيرانه، و قد أفاض فقهاء مسلمون آخرون، خلال العصر الوسيط، في الحديث عن ضرورة الاحترام المتبادل بين الجار و جاره، إلا أن نصوصهم لا تنتهي إلى قواعد صارمة وواضحة تضبط فن البناء.
و حسب ابن الإمام، فإن مهمة السهر على تطبيق مقتضيات العادات و التقاليد كانت موكولة للقاضي، و أحيانا إلى المحتسب، المسؤول عن الأسواق كما كتب ابن عبدون3.
و هكذا، فبناء على نصائح و استشارة خبير في الموضوع، من طينة ابن الرامي، كان يتعين عليهم الحسم في الخلافات و المنازعات المتعلقة بالأسيجة المشتركة وقضايا حميمية الجوار كما سجل ذلك المارودي4. كان من واجبهم، مثلا، الحرص على ألا يتجاوز طول البيت حدا معينا يسمح لأصحابه، و خصوصا الرجال، بإلقاء نظرهم على الجيران، لهذا السبب كانوا يفرضون على الناس القيام بتسييج و تسوير سطح البيت العالي، أو عدم تجاوز علو بيوت الآخرين، و من جهة أخرى، كانوا يمنعون على الناس إقامة أنشطة تثير الإزعاج أو تسبب التلوث داخل تجمع سكاني أو بالقرب من المسجد. و قد روى لويس ماسينيون إحدى العادات المغربية التي كانت تعتبر أن ضجيج و اصطدام المطرقة و السندان كانا مصدر قلق و إزعاج للمصلين، و خطرا على سلامة المنارات؛ و لهذا السبب لم يكن المخزن يسمح بفتح دكان للحدادة إلا بعد إخضاعه للاختبار التالي : توضع بيضة على قمة المنارة الأقرب، فإن تحركت بفعل الاهتزازات القادمة من دكان الحداد، فإن هذا الأخير يطلب منه الذهاب إلى مكان أبعد، و إلا فإنه يبقى في مكانه»5.
و إجمالا، فإنه، في غياب هيئة أو وسيط فردي يرسمان، مسبقا، شكل المدينة و تصميم فضاءاتها، فإن المدينة تنتج قواعد و آليات للتفكير في ذاتها و انبنائها.
و الآن، لنتساءل عن هوية المهندس المعماري في الماضي؟ إذا كان البيت الشعبي البسيط قد تم تشييده في غياب تصميم مسبق، بدون نموذج موضوعي، و بدون مهندس معماري، فهل يصدق ذلك أيضا على البنية المعقدة للقصور و المساجد و المدارس؟
بصفة عامة، لم يكن لبنايات المدينة، مهما كانت طبيعتها، مبدع فردي يوقع عمله المعماري. ذلك أن المدينة كانت نتيجة تعدد للمهن و الحرف المختصة التي لم يكن يراقبها و يسيرها، أحيانا، مهندس معماري. مثلما نتصوره اليوم، و إنما كان تسييرها خاضعا لرئيس الأشغال أو رئيس الورشة.ثم إن مصطلح «مهندس معماري» لم يكن موجودا في اللغة العربية خلال العصر الوسيط و يكفي في هذا الشأن، تصفح «لسان العرب» للوقوف على هذه الحقيقة. إن لفظة «مهندس» المشتقة من الكلمة الفارسية «هندزة»، و التي تعني اليوم «هندسة»، كان المقصود بها آنذاك المسؤول عن السقي.
و بالفعل، «لم يكن الزبناء يومها يتعاملون مع إنسان تابع دراسته العلمية بهدف تصميم و بناء المنازل و العمارات، و لا مع بورجوازي ينحدر من وسط اجتماعي معين، و له ثقافة كتلك التي يتوفر عليها الكتاب و الأساتذة، لقد كان مجرد رئيس للأشغال معروف في منطقته المحدودة الصغيرة، تماما مثل المقاولين الجيدين اليوم»6.
لقد كانت البنايات التقليدية ترتبط ارتباطا مباشرا بالمعرفة المتراكمة عبر عدة قرون. بل إن بعض البنايات المعقدة، أحيانا، كان يستغرق إنجازها مدة طويلة جدا تتجاوز حياة جيل من البناة و الحرفيين، و يتم تعديلها بالنقصان أو بالإضافة عبر الزمن. و هكذا كانوا يستطيعون الزيادة في الأبعاد الأولية للقصور و المساجد إذا كانت المجالات المحيطة بها متوفرة، أو إغناء المستويات الزخرفية إذا كانت الشروط المادية تسمح بذلك. فبدءا من فكرة التصميم، وصولا إلى الإنجاز النهائي، تتدخل سلسلة من الأشخاص في عملية الإنتاج و التشييد بمختلف مستوياته. غير أن الزبناء هم الذين كانوا يلعبون، بصفة عامة، الدور المركزي في توجيه الأشغال و مراقبتها، و من ثم، فبعد الاتفاق مع أعضاء عائلته، إذا كان الأمر يتعلق بمالك، أو مع المستشارين، إذا كان يتعلق بأمير أو براع، فإن الزبون يستدعي مسؤولا عن البناء، أو رئيسا للأشغال، و يناقش معه بنية و شكل البناية، إضافة إلى المستلزمات المادية و الاقتصادية و التقنية و الاستتيقية. و سرعان ما يضع هذا المسؤول، أو المسؤولون صورة للمسكن. كانوا أولا، يرسمون مباشرة على الأرض، ماسحين لها، وواضعين علامات بالحجارة. و هكذا يرسمون مستطيلين اثنين، أحدهما داخل الآخر، بحيث يمثل المستطيل الداخلي الباحة أو الرياض، في حين يمثل المستطيل الخارجي السور المحيط، و يمكن، خلال الإنجاز فيما بعد، الابتعاد عن الفكرة الأولى تبعا لتقدم الأشغال. و كان رؤساء الأشغال، أمر الاهتمام بتزويد أوراش البناء بالإمدادات فيما يخص مواد البناء، و أحيانا تغيير و تعديل الإجراءات المتفق عليها في البداية، و كذا الاتصال بالمهنيين و الحرفيين، و تتبع كل مراحل البناء : وضع التصاميم، احترامها، عملية الحفر ووضع الأسس، البناء، الزخرفة إلخ. و منذ البداية كذلك ينخرط حرفيون آخرون مع البنائين و النجارين، يتم تعويضهم بالجصاصين و النحاتين و الرسامين. كما ينخرط آخرون، مثل قلاعي الحجارة أو حفاري الآبار، في عملية الإنجاز بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
بعبارة أخرى، حين يتم الشروع في بناء منزل جديد، تكون البداية بحفر الأسس بواسطة المعاول و بعمق متفاوت، أما التربة الناتجة عن عملية الحفر، فإنها، بعد تكديسها في المحيط الذي سيبنى، و دكها و تسويتها، تشكل مصطبة أعلى بحوالي عشرة سنتمترات، الأمر الذي كان يتناسب مع معيار تقليدي من معايير البناء بحيث أن أرضية البناية يجب أن تكون، عموما، مرتفعة بالقياس إلى الزقاق. بعد الانتهاء من وضع الأساس، يشرع النجارون في وضع الهياكل الخشبية و السلالم. بعد ذلك، يرفع البناؤون الأعمدة و الحيطان ليعطوا للمنزل شكله النهائي، ثم يتركون مكانهم للدكاكين الذين يتعين عليهم دك وتسوية المساحات و السطوح و الأرضية. و قد كان جميع الصناع يعتمديون هذه السيرورة التجريبية، كل في مجال اختصاصه، من أجل الاستجابة للمقتضيات التقنية، و تقديم حلول ملائمة و ناجعة للمشاكل المعمارية التي كانت تتطلب أحيانا حذقا و مهارة خاصين. لقد كن عمل هؤلاء، من خلال إعادة إنتاج أشكال موضوعية و ذاتية موروثة، يستجيب، في حقيقة الأمر، لضرورات اجتماعية و تقنية رمزية.
و أخيرا، من كان الفنان؟ كان تشييد البنايات الكبرى للمدينة القديمة، الدينية و المدنية، بمثابة مختبر واسع و دائم للإنتاج المعماري و الفني و الفكري. و قد كان يختلف عن تشييد المساكن الشعبية التي كانت تمثل أغلبية الإطار المشيد للمدينة. و كان هذا الاختلاف يترجم، على مستوى بعد المقاطع و الأجزاء المعمارية، بل أكثر من ذلك على مستوى الطابع الاستثنائي الذي كانت تعبر عنه تعبيرا جيدا وفرة مواد البناء، و التعقيد المقصود و الجميل للأشكال الزخرفية. و من ثم، فقد ظل إنتاج الأشكال المعمارية، في الأغلب الأعم، فنا من نصيب البلاط و أغنياء التجار. و عليه، فإن تطور الفن و المعمار، و تطور الذوق ككل، كانا مرتبطين في المقام الأول، بعادات السيد.
من أجل كسوة و نحت السطوح و الأعمدة، كان المزينون و الزخرفيون يتوفرون على مواد متنوعة جدا، و التي بالإمكان تصنيفها بحسب طبيعتها : الطين الموشى، الجب، الرخام، الخشب إلخ. و كل مادة من هذه المواد تتطلب تخصصا و تقسيما للعمل. من جهة أخرى كان إلباس المساحات والأحجام يحظى بأهمية أكثر من المعمار في حد ذاته. كان الصناع «يزدرون الإسمنت ولا يقبلونه باعتباره حاملا للسطوح و الأعمدة الي سيعملون على إلباسها وتوشيحها، في الداخل، بالزليج و الجبص المنقوش والخشب المصبوغ أو بالمقرنس»7. ومن هذا المنطلق، فإن البناء الذي يشتغل بالإسمنت و التراب، و الأقل اعتبارا من الخطاط و النقاش و الرسام و النحات والجباص والآبنوسي، النجار الذي يعمل على الآبنوس وباختصار الأقل اعتبارا من ذلك الذي يكسو المساحات و الأحجام، لم يكن تقريبا ينتمي إلى محيط الأمير. لقد كان البناء، في الثقافة الإسلامية، فنا في غاية الخشونة. لم يكن السكان و لا الأمير يعتبرون المعمار بصفته علاقات للأحجام و التصاميم داخل الفضاء. و بالمقابل، كانوا يعبرون عن إعجابهم بالخصوص أمام «الديكور التجريدي أو المنفوش، و أمام أنواع الفسيفساء و العمل الدقيق على الخشب، كان المزخرفون، و بصفة خاصة الخطاطون و الرسامون يشبهون تقريبا بالمثقفين و المتأدبين.
كانت ثقافتهم التقنية و العالمة تسمح لهم بتطوير عالم بصري متزايد التعقيد، و بتأثير من الهندسة و علم الفلك إلخ. استطاع هؤلاء الفنانون بلورة و تطوير قائمة من الأشكال المميزة للحضارة العربية الإسلامية، غير أنها قائمة ظلت ملتصقة بالسياق الاجتماعي، و بالمعيار الديني اللذين بدونهما لم يكن عدد من هذه الأشكال و التوليفات التجريدية قابلا للتصور و الإدراك. ألم يتم تقديم هذا العالم بصفته تعبيرا فنيا مستقلا؟ في الواقع، لم يكن الإبداع الفني يمارس لذاته، و غنما كان يمارس عموما، بهدف خلق و تزيين و زخرفة حامل أو شيء مبني و قائم مسبقا. و هذا الشيء الموجود قبل الشكل الزخرفي اللاحق عليه كان يتحقق إنجازه ليس تبعا لهذه الزخرفة، و إنما في علاقة بالغاية المنتظرة منه. لم يكن «الفنانون الزخرفيون»، في العالم الإسلامي، يحاكون الطبيعة، بل إنهم كانوا يخضعون لقواعد أخرى هي غير القواعد الفنية المحض، إن التجريد، خلافا لما يعنيه الفن التجريدي اليوم، لم يكن أبدا نتيجة نابعة من جوهر الفن ذاته. و إنما كان مجرد احترام للمعايير و تحقيقا لفن شرعي. من هنا نلاحظ الصلة التي كانت تربط «الفنان» بالضرورات الاجتماعية، بحيث لا يمكنه التعبير عن نيته الإستتيقية إلا في علاقتها بثنائية الحلال و الحرام.
انطلاقا مما سبق، نلاحظ أن مصطلحي «فنان» و «مهندس معماري» يدلان على وظائف ثقافية جد دقيقة، و على وضعيات اجتماعية جد محددة. فالمهندس المعماري، على سبيل المثال، هو الذي يضع النموذج و يتتبع الأشغال و يعمل على تنسيقها منذ البداية إلى النهاية، و خلال مدة زمنية محددة. و مع ذلك، إن ترددنا في استعمال المصطلحين، الغريبين على روح ذلك العصر، لا يقلل البتة من عظمة بناتنا و مشيدينا.
عن المجلة الفرنسية «Qantara»، العدد 65.
1 يحفظ لنا التاريخ، بصورة استثنائية، أسماء بعض كبار المعماريين من العصر العثماني أمثال : سينان و محمد آغا إلخ.
2 ابن الرامي، كتاب الإعلان بأحكام البيان، مخطوط منشور بمجلة «الفقه المالكي و التراث بالقضاء المغربي» ، الأعداد 2 و 3 و 4 ، الرباط ، شتنبر 1892..
3 Ibn Abdoun (M), traité du XIIe siècle sur la vie urbaine et le corps de métier, traduit par E. levi-Provençal. Séville musulmane au début du XIIe siècle. J. A. tome CCXXIV, Paris Maisonneuve, 1947
4 الماوردي، الأحكام السلطانية المطبعة المحمدية ، الفاهرة ، بدون تاريخ.
5 Massignon (L.) , Enquête sur les corporations musulmanes d?artisans et de commerçants au Maroc, Revue du Monde Musulman, 1924 (2e section), volume LVIII, p. 73.
6 Wiet (G.), cité par Papadopoulo , L?Islam et l?art musulman, Paris, azenod, 1976, p. 24.
7 Paccard (A). Le Maroc et l?Artisanat traditionnel islamique dans l?architecture,2 vol., Saint-Jorioz. Ed. de l?atelier 74, 1980


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.