اقتنى تذكرته، ثم عرج على المحل الأنيق في المحطة، و اشترى مجلة مكتوبة بالفرنسية، و علكة معطرة للفم، في الباب المؤدي إلى السكة، أخرج تذكرته للمراقب الذي أشر عليها ثم خاطبه: -أسرع… قطارك سيغادر الآن. أجابه بهدوء غريب: – لا بأس، سآخذ الذي بعده! -لكنه بعد ساعتين من الآن. – ماشي مشكل.. قالها و انصرف غير مبال بنظرات استغراب مخاطبه. ما لايعرفه المراقب أن المحطة بالنسبة إليه ليست مكانا لركوب القطارات فحسب، بل هي مرفق ينبض بالحياة و الجمال. عرج مباشرة على المقهى، و اتخذ مكانا "استراتيجيا" يمكنه من نظرة "بانورامية"، و عندما حضر النادل كاد أن يطلب منه "براد" شاي، لكنه أراد أن يبلغ "المدارك العليا" للرقي، فطلب قهوة سوداء في فنجان صغير. و بدأ بتأمل أفواج المسافرين، مع التركيز على الإناث بتنانير قصيرة أو سراويل "مجسمة"، ثم بدأ يتصفح مجلته المفرنسة بشكل استعراضي، كان كولد صغير يكتفي بتأمل الصور و محاولة تهجئة العناوين، و عندما رفع عينه عن المجلة رآها… كانت في الجهة الأخرى من المقهى، تجلس بكل جلالها و بهائها، جمالها لاسع، و أناقتها ملفتة. مضى دهر قبل أن ينتبه إلى فمه المفتوح و عينيه المحدقتين، وجد صعوبة في السيطرة على نفسه، كاد يجري و يعانقها و يسألها: -انتظرتك كثيرا… فأين كنت؟ لكنه خاف أن يبطش به رواد المقهى قبل تسليمه للشرطة. فقرر الاشتغال بطريقة "علمية"، تفحص يديها بحثا عن دليل ارتباط، لكن الأمر التبس عليه، فخبرته في خواتم الزواج منعدمة، انتقل للخطوة التالية، إنها مفرطة التأنق، بينما أغلب النساء يكون عرسهم آخر عهدهن بالأناقة، إذن هي عازبة، فكر في تقديم نفسه إليها، لكنها ستصده لأن النساء اعتدن صد الرجال، لهذا قرر أن يتركها "تنضج" على نار هادئة، المشكلة أنها غارقة في عالمها و لا تهتم لسهام الحب التي يريد أن يمطرها بها، فجأة رن هاتفها. -من هذا الثقيل الذي يريد أن يقطع "خلوتنا"؟ تساءل في نفسه بضيق، قبل أن يضيف: -أمعقول أن يكون رجلا؟ خطيبها أو حبيبها مثلا؟ أيمكن أن ينهار حبه بهذه السرعة؟ كان يتابعها و هي تتحدث بقلق، و سرعان ما ختمت مكالمتها قائلة: -صافي آحبيبتي.. دابا نتصل بيك! تنفس الصعداء، و ارتسمت على وجهه ابتسامة الرضى. بعد قليل أخرجت من حقبتها علبة ملونة. -أيمكن أن تكون علبة سجائر؟ تساءل بصدمة. -السجائر خط أحمر، لن أسمح لمن ستكون زوجتي بالتدخين، و حتى إن قبلت أنا، ماذا ستقول أمي و خالتي إن رأووا زوجتي تدخن؟ تابع العلبة اللعينة بفزع، قبل أن نفتحها و تخرج منها علكة و نعيدها للحقيبة، تنفس الصعداء مرة أخرى و سخر من نفسه: -يجب أن أزور طبيب العيون! استمر في ملاحقتها بنفس الدرجة التي استمرت فيها في تجاهله، و رغم ضيقه إلا أن داخله كان مرتاحا كون زوجته المستقبلة ليست "متاحة" لأول طالب. فجأة وضعت رجلا على رجل، فظهر ما فوق ركبتها، أحس بالدم يفور في عروقه، كاد يخلع معطفه و يضعه على "اللحم الحرام"، فلا يريد لأحد أن يشاهد "متاعه" المستقبلي، سيجعلها تتحجب بعد الزواج، و لم بعد الزواج؟ ستتحجب بعد أول لقاء! ارتاح لقراره، و زادت راحته بعد أن عادت لسابق وضعيتها بعد أن لاحظت -ربما- تحديقه. فجأة جاء شاب أنيق، وقفت؛ فطبع على خدها قبلتين كانتا جمرا على قلب المسكين، ثم غادر "العاشقان" المقهى متعانقين، و قبل أن يغادرا رمته الفتاة بنظرة احتقار، اللعينة كانت مدركة و تتغافل. بينما أحس هو أن عالمه ينهار، نزلت من عينيه دمعة حزينة، أما قلبه فكاد يتوقف بعد هذا الجرم الكبير و "الخيانة" الفاضحة. نهض من مقعده بتثاقل، بالكاد تحمله رجلاه، فجأة انتبه إلى أن آخر قطار قد غادر، و كان عليه مغادرة المحطة بحثا عن مكان يبيت فيه، لم يبال أحد به أو بحاله، وحدها نظرات المراقب الشامتة رافقته قبل أن يسمعه يقول: – ماشي مشكل..