يمتعض الكثيرون في المغرب من العناية بأخبار وحياة أشباه الفنانين، وأشباه المثقفين، وأشباه المبدعين، بينما يركن المبدعون والمثقفون وحتى الفنانون الحقيقيون في الظل، أثناء حياتهم وبعد مماتهم، دون احتفاء ولا أدنى اهتمام، ما يزيد الرداءة انتفاشا، ويرفع البذاءة انتفاخا. وكثيرة هي أسماء الفنانين والمثقفين والأدباء، في مختلف مجالات الإبداع بالمغرب، الذين غمط الإعلام والمجتمع حقهم في البروز والاحتفاء بهم، وبما جادت وتجود به قرائحهم، فلا يكاد يذكرهم إلا القليلون، بينما تزهو الرداءة وتتزين، وتصير عنوانا لمرحلة قائمة إلى اليوم. نفض الغبار من منا يذكر الكاتب المغربي الراحل، محمد خير الدين، أو "الطائر الأزرق"، والذي يعد من أبرز الشخصيات الأدبية الأمازيغية في القرن الماضي، كما من يذكر الشاعر الراحل عبد الله راجع، أحد أهم الأصوات الشعرية في السبعينيات، ومن يذكر الشاعر اللبيب الراحل محمد الخمار الكنوني.. في ذكرى وفاته الخامسة والعشرين، تتذكر جريدة هسبريس محمد الخمار الكنوني، الذي رحل من الدنيا سريعا وبدون ضجيج كما كان دأبه قيد حياته، وديعا مسالما وعبدا للخفاء، كارها للظهور، في ال25 من مارس سنة 1991 بمدينة القصر الكبير، التي ولد فيها أيضا في 4 أبريل 1941. 50 سنة فقط عاشها الخمار الكنوني قبل أن يودع غواية الدنيا وفتنة الشعر..حياة قصيرة تلك التي عاشها شاعرنا اللبيب، لكنه ترك ما يحيي ذكراه وسط أهله وأسرته ومحبيه من عشاق الكلمة الأصيلة، ذلك أنه خلف وراءه ديوانا شعريا فريدا سنة 1987 سماه "رماد هيسبريس". ويبدو أن ما لم يعلمه الخمار الكنوني حين وفاته قبل 25 عاما بالمدينة التي رأى فيها النور أول مرة، أن "رماد" ديوانه ذاك سينبعث منه طائر الفينيق الأسطوري، وتتأسس على أثره بعد 20 عاما بالضبط أكبر تجربة إعلامية إلكترونية بالمغرب، يقف وراءها نجلا الشاعر الراحل. هسبريس طرقت باب الشاعر والمهتم بشؤون المعرفة، صلاح بوسريف، أحد أهم الأصوات الشعرية بالمشهد الأدبي حاليا بالمغرب، ليسرد بعض ملامح علاقته الشخصية والإنسانية مع الراحل الكنوني، وبعضا مما لا زال يتذكره من علاقاته الأدبية مع مبدع "رماد هيسبريس". بوسريف: الخمار كما عرفته ويتذكر بوسريف، ضمن حديثه لجريدة هسبريس، بأنه لقاءه بالشاعر الراحل محمد الخمَّار الكنوني، جاء بِرَغْبَة منه هو، عبر صديق لبوسريف، كان طالباً عند الخمار بكلية الآداب بالرباط، وكان يعمل صحافياً بجريدة الاتحاد الاشتراكي التي كان بوسريف ينشُر فيها كتاباته. ويضيف "لم أكن أُفَكر باللقاء بالخمار، باعتباره شاعرا له مكانة متميزة في الشعر المغربي المعاصر،، في الوقت الذي كنتُ في بداية ثمانينيات القرن الماضي، ما أزال ألْتَمس طريقي نحو كتابة، أكون فيها أنا نفسي، خارِجَ الأصواتِ الكثيرة التي كانتْ تَقْتِسِم في ما بينها واقع الشِّعر في العالم العربي". وتابع بوسريف بأن دعوة الكنوني له كانت بمثابة "صدمة"، أو رجة جعلته يشعر بفرح لا يستطيع وَصْفَه اليوم، لِبُعْد المسافة التي فَصَلَتْه عنه، متذكرا أنه قابله بحسب الموعد الذي حَدده له، بالمقهى المقابل للمقر القديم لجريدة "العلم" بالرباط، في الساعة التاسعة صباحا، حيث وَجده في انْتِظاره. وواصل بوسريف التذكر "استطاع الخمار أن يذوب بتواضُعِه، وطريقة تحيته لِي، الرَّهْبَة التي كانت بداخِلِي، وما كنتُ أُحِسُّه من ارْتِباكٍ، ولَجْلَجَةٍ في لِساني، وقد أخبرني أنَّه كان يُراقِبُ منذ مُدَّة، كل ما أنْشُرُه منذ النصوص الأولى بجريدة "البيان" في أواخر السبعينيات، ثم ما نَشَرْتُه بجريدتَيْ "الاتِّحاد الاشتراكي"، و"البلاغ المغربي" فيما بعد. كان اللقاء بين الكنوني وبوسريف لقاء شِعْريا بامتياز، حاول من خلاله الراحل أن يعرف عنه كل شيء، ما يقرأه من كتب، وعلاقته بالشِّعر العربي، قديمه وحديثه، ولمن يقرأ من الشعراء المغاربة، وغيرها من الأسئلة التي أتاحَتْ لبوسريف التعرف بدوره على شاعر، كان يحرص على أن يشجع من يرى فيهم شعراء لهم مستقبل شِعْرِي". متواضع وغير متعالٍ وتطورت العلاقة بين الراحل الخمار الكنوني وبوسريف، وأصبح الاثنان يلتقيان حسب مواعيد منظمة، إما بنفس المقهى الذي شهد أول لقاء بينهما، أو في قاعة شعبة اللغة العربية بكلية الآداب بالرباط، حيث كانا يغادرانها مشيا في طرقات الرباط، رفيقهما الشعر وشجون الأدب. وحول الصفات الإنسانية للشاعر الراحل محمد الخمار الكنوني، يوضح بوسريف بأنه كان مُنْصِتاً عميقا"، مردفا بالقول "بطبيعة سِني، وثقتي في نفسي التي شَرَعْتُ في اكتسابها من مثل أحمد المجاطي، والكنوني، وعبد الله راجع، وأحمد الجوماري، ومحمد زفراف، كنتُ متحمسا للكلام في الشِّعر". واسترسل "كنت أتحدث أمام الخمار رغم ما كان يعوزني من معرفة بكثير من تفاصيل العراق، رغم ما حَمَلْتُه منه من العراق، على أساتذة مثل الدكتور صفاء خلوصي، الذي عنه عرفتُ أسرار العَروض، وكان الخمار، الشَّاعر المتواضع، والمتحمس لحماسي، يضعني في الطريق كُلما بَدا له أن قدمي زلت أو تسرعت". وأكمل المتحدث بأن الكنوني لم يكن متعاليا، ولا مدعِياً، مثل بعض أفراد جيله من النقاد والشُّعراء، أو من كانوا تلامذةً له، ممن أصبحوا يكتبون بأمْر منه، بل إن تواضع الراحل جعله يدرك أن الشاعر والإنسان لا ينفصلان، وأن أي انفصال بين الاثنين، هو إساءة للشِّعر، مهما كانت قيمة الشّاعر". واستطرد "هذا ما سأُدْرِكه، في علاقتي بمحمود درويش برام الله، خلال نصف شهر من الإقامة هُناك، رفقة الشاعر غسان زقطان، وأيضاً في لقاءاتنا في المغرب، ونفس الأمر حدث لي مع أدونيس، وسعدي يوسف، ومع محمد عفيفي مطر، فهؤلاء الكبار، كانوا يجمعون بين الشِّعر والتَّواضُع، ولم يكونوا مصابِين بعماء الشّخص". ويبقى محمد الخمار الكنوني، شاعراً صاحب تجربة متميزة، لم تحظ بما تقتضيه من اهتمام، لأن الخمار كان خارج الاصطفافات الإيديولوجية، وكان نَغما فريدا، وله وتَرُه الخاص به"، مبرزا أن ديوانه الوحيد "رماد هيسبريس" هو تعبير عن هذه الفرادة، التي لا أحد يتكلم عنها اليوم. وخلص بوسريف إلى أن الوفاء يقتضي أن نلتفت للشِّعر المغربي، في عمومه، أو في تجاربه العميقة التي لا يمكن تفاديها، مهما كانت درجة الحَيْف التي تَلْحَق هذا الشَّاعر أو ذاك"، مؤكدا أن هناك الكثير مما نحتاج تعلمه من أمثال الخمار الكنوني، ومن غيرهم ممن لازالوا بيننا من الشعراء الحقيقيين".