عندما تجتاحني رغبة القراءة أنبش في المكتبة القديمة المنزوية في كآبة بركن بيتي…. أنفض الغبار عن كتاب بوجدان غريب…كأني أريد المصالحة مع رفيق طالما آنس وحدتي..وصادق غربتي..أتحسس دفته الأولى..أقرأ العنوان والكاتب..أشم رائحة الورق الأسطورية..فتتراءى لي الذكريات في أبهى معانيها..وأنصع محطاتها… كنا فيما مضى نتأبط الكتب أينما ولينا وجوهنا..في حلنا وترحالنا..فإذا جلسنا في مقهى… كانت الحواس على موعد مع الاتحاد والعزف على نغمات متناسقة…لمس الأوراق الزاهية..ونظر في الأسطر المتناسقة..وسمع للألحان الجميلة..وذوق لقهوة مضبوطة… كنا ننتصر لجمال الكلمة ورصانتها..فنبحث عن قدسيتها جاهدين..ونتقفى أسرارها ساهرين.. …..إن الشوق يربض عند النذرة….. كان الكتاب الناذر يقطع المسافات الطوال..ويزور بيوتا واكواخا..قبل أن يعود لصاحبه منهكا ينذب حاله ويبكي حظه…يشرع الواحد منا في النهل من معاني الكتاب بشبق كبير…وفي ذهنه رنات من وصايا أستاذه كوصايا لقمان الحكيم: _يا بني..اقرأ الصفحة وأعد قراءتها ولخصها…. _يابني..الكتاب المترهل دليل على تعرضه للقراءة بإخلاص… _يابني..إذا أكملت قراءته فهبه لمن لا يجد إليه سبيلا… _يا ولدي..صاحب الكتاب فإنه الصديق الذي لا يخون… _يا ولدي..من قرأ أكثر علا شأنه وسمت مرتبته… مرت السنين..لم يخن الكتاب..بقي حاضنا للكلمة في إصرار..ورضي بظلمات في سراديب المكتبة الباردة..وغبارها..على أن ينكر العشرة والعشير….. لكننا قابلناه بخيانة بئيسة..استبدلناه بمجلة..جريدة..قلنا هذا عصر السرعةوالاختصار… ارتضينا مقالات موجزة..فقصص قصيرة..وقصيرة جدا..وقصيرة جدا جدا…وكلمات متقاطعة… …….وجاء الكونيكسيون ليذهب بما تبقى من قلب سميع……… ……عفوا صديقنا القديم…أيها الكتاب… ….يخجلنا صمودك…فنحن ناكرون للعشرة والعشير….