قبل أيام قام المجلس البلدي لمدينة القصر الكبير بقطع بعض أغصان شجرة لها رمزية كبيرة في المدينة، لا من حيث حجمها ولا من حيث عمرها ولا من حيث موقعها المميز الذي يجعل كل عابر لحديقة السويقة يمر تحت ظلالها التي تنعش قيظ صيف القصر الكبير ويحتمي من الامطار الغزيرة تحتها كل من حاصرته، ناهيك على أنها الشاهد الوحيد على إعدام معلمة القصر الفنية المتمثلة في مسرح بيريس كالدوس، بعد ان اختفى الشهود ومرتكبو الجريمة في نفس الوقت. إلى هذا الحد قد يبدو الحدث عاديا بالنظر إلى أن عملية التشذيب يتم القيام بها في كل المدن ونظرا لأن الأشجار تحتاج في فترة من فتراتها إلى هذه العملية حتى تواصل نموها بحيوية أكبر، لكن عندما تعلق الأمر بشجرة السويقة فقد كان الأمر مختلفا بالنظر للضجة التي أثارتها وما خلفته من ردود فعل مختلفة و تشنج بين أطراف عديدة، فما الذي حدث إذن ؟ البداية كانت مع احتجاج بعض السكان على العملية التي اعتبروها إعداما لهذه الشجرة التاريخية من خلال قطع أغصانها بشكل جائر سيهدد وجودها ويسرع باندثارها، في حين كان لآخرين تحليل أكثر عمقا من خلال ربط العملية بتلقي رشوة من صاحب المقهى المقابلة للشجرة حتى تصله أشعة شمس تساهم في تحسين سمعة المقهى وزيادة الإقبال عليها، أما البعض الآخر فقد تحمس لربط الحدث بأحداث أخرى وتجاوزات للمجلس البلدي في مجالات مختلفة، فيما التجأ البعض لحشد قاموس أقرب إلى السوقية منه إلى نقاش حول وضعية المساحات الخضراء في المدينة. أولا يجب التأكيد على أن المسألة الإيجابية هي وجود غيرة من أبناء المدينة على كل ما يرتبط بها وبتاريخها من جهة، ومن جهة أخرى الإحساس العام بالتذمر من تدهور أوضاعها والإهمال الذي تعاني منه على مستويات عدة، وهي كلها مؤشرات إيجابية على الوعي القصري المتنامي بضرورة إرجاع المدينة إلى مكانتها الصحيحة بشكل يلائم تاريخها العريق. مربط الفرس في انفجار هكذا انتقادات يرجع بالأساس إلى المسألة التواصلية لأن الطرف الغائب الأكبر خلال المراحل الأولى من النقاش كان هو المجلس البلدي، الذي لم يكلف نفسه عناء التوضيح منذ أول انتقاد لهذه العملية، لأنه اولا وأخيرا فهذا واجبه والمواطن القصري من حقه معرفة كل ما يرتبط بهذه العملية حتى لو كان الأمر يتعلق بأصغر شجرة في المدينة فبالأحرى شجرة برمزية شجرة السويقة، فأعضاء المجلس البلدي لم يتحركوا إلا عندما أصبحت الانتقادات تنهار كالسيل عليه من كل حدب وصوب، فماذا كان سيخسر المجلس لو عمم بيانا يوضح فيه ملابسات الموضوع ؟ ولماذا لم يكلف المصلحة المسؤولة عن التشجير في المدينة بموافاة الرأي العام بالتفاصيل منذ بداية النقاش إذا كانت العملية سليمة وليس فيها عيوب؟ إن أكثر ما يؤلم في موضوع شجرة السويقة هو أنه بقدر ما كانت غيرة القصريين باعثة على التفاؤل، بقدر ما كشفت عن قصور خطير في وعي البعض بمعنى انتقاد التدبير الجماعي، طبعا الأشجار مهمة والمساحات الخضراء ضرورة إيكولوجية لا مناص منها لحياة البشرية عموما وساكنة المدينة على وجه الخصوص، لكن هذا لا يجعل انتقاد التدبير الجماعي والدفاع عنه يكون بأساليب "فايسبوكية " تضر بسمعة المدينة أكثر مما تنفعها. إن التركيز على الانتقاد والابتعاد عن الفاعلية في الإصلاح، يجعل الانتقادات تفرغ من مضمونها وتتحول من ملاحظات سلبية حول التدبير الجماعي إلى مجرد تراشق بكلام يذهب حد التجريح في حق الاشخاص وأصولهم، أو كيل الاتهامات باللصوصية والعمالة والخيانة في غياب أي دليل ملموس، الشيء الذي لن يخدم سوى الطرف الأقوى والذي يسير المدينة بقوة القانون وليس شيء آخر. نحن لا نريد منتقدين للتدبير الجماعي يتقمصون دور البطولة المناسباتية أو العويل على مصلحة المدينة على صفحات الفايسبوك، في حين أن الذي يسير المدينة يسيرها على أرض الواقع وليس على الفايسبوك، أين هو المجتمع المدني القصري والجمعيات "الأشباح" التي تبرز إلى الوجود فقط عندما يعلن عن توزيع المنح ؟ لماذا لا تمارس مهامها النقدية بشكل متواصل في حق التدبير الجماعي بشكل حضاري وبقوة القانون وبطرح البدائل بدل طرح الشتائم والعويل الذي لا طائل منه والذي لن يغير من الوضع شيئا؟ أين هي بعض الجمعيات التي تهتم بالبيئة في مدينة القصر الكبير والتي يمكن أن تكون قد استفادت من المنحة لسنوات دون أي عطاء يذكر ؟ لماذا لم تظهر في موضوع الشجرة ولماذا لا تعد تصورا متكاملا يدخل في نطاق اختصاصها حول المساحات الخضراء في المدينة ويعد كبديل لما تراه من اختلالات ؟ طبعا لا توجد أية بدائل جمعوية مبنية على أساس علمي في هذا السياق لأنه بكل بساطة ليس هناك مجتمع مدني في القصر الكبير يؤطر الاحتجاج، بل هناك فقط انتقادات متفرقة هنا وهناك وإن كانت صحيحة في كثير من الأحيان، لكن طابعها الشخصي لا يؤدي سوى إلى صدور ردود فعل مدفوعة بعواطف الانتماء الشخصية، الشيء الذي يدخل النقاش إلى فضاءات الحمامات التقليدية بدل أن يدخل ردهات بناية البلدية. ختاما فالحديث هنا ليس دفاعا عن أحد ولا ضد الشجرة، لكنه دعوة إلى الرقي بمستوى تقييم الأداء الجماعي وإعطائه القوة النقدية المبنية على تصورات بديلة ومبادرات مدروسة، بدل أن يختزل موضوع شجرة تاريخية في هكذا نقاش ويتحول إلى حديث شجرة فقط .