حين تخرج الطفلة من بيتها بحي الشريعة باتجاه المحطة الطرقية، تحاصرها موسيقى فريد وهي تصدح من دكان إسكافي الحي المعروف بولعه بالموسيقى. لا يمكنك في أية حال أن تمر بجوار دكانه الصغير دون أن تشدّك أعذب الألحان..وكأن الرجل نذر نفسه للترويج لما تبقى من أمجاد لحنية مهدّدة بالإندثار. لنقل إنه إسكافي فنان .. كان علينا أن نتحايل عليه لنستعير التسجيلات القديمة ونتحمّل كل الغزل الذي يمكن أن تأتي به اللحظة..هو الذي اشتهى خطبة كل حسناوات الحي لاغيا بذلك كل الفوارق الإجتماعية..كان فولتيري الهوى.. وعلاقته بأحذية النساء جد ملتبسة إذ لا يتوانى في ترديد أجمل الخطابات في حضرة الزبونات وهو يدلل أحدية النسوة على الخصوص..الإصلاحات عنده كانت مكلفة مقارنة مع غيره، لكن النتائج مضمونة..وحضور الموسيقى لا محيد عنه. إذ لا يمكن للرجل أن يدق مسمارا في بطن حذاء دون نغم وبتأن شديد حتى يضمن وقوف الفتيات بالمحل لأطول مدّة ممكنة.. يضع اللصاق ويتركه يجف لفترة طويلة وهو مسترسل في محاضرة في شقين: الأول يخصص للمهارات الإسكافية الكبرى والتحسر على مآل الحرفة في وجود المتطفلين..أما الشق الثاني فهو في تاريخ الفن والموسيقى. يستهله بالمصير التراجيدي لأسمهان ومسؤولية أم كلثوم في الحادثة ثم يردف بالسياق العام الذي حكم خروج أغنية تحفة كبساط الريح لفريد..وكل الأحلام العربية التي رافقت المشروع وأخفقت في الطريق لابسبب القيمة الفنية للحن ولكن لأسباب أخرى أكثر تعقيدا..أترجاه كي يكمل المهمة الأصل لأنصرف لحالي. يحتجّ بصوت عالي : تبّا لهته المدارس التي تُضيّعون فيها حياتكم دون أن تمتلكوا أدنى إحساس بالثقافة أوبالفن أصطنع انفعالا سريعا وأزمجر لا أريد الحذاء الآن أعطني فقط التسجيل كما وعدتني البارحة. يرد بتسلط وجبروت: حذار أن يلحقه أدنى أذى وإلاّ .. يصمت قليلا ثم يقول: هوالتسجيل الوحيد المتبقي في المدينة بعد السطو على الذخائر والكنوز الموسيقية التي كانت بحوزة الوهراني.. لا تخف سأرجعه لك كما أخذته تأكد.. أشكره بسرعة بعد أخذ التسجيل وأمضي بالغنيمة. يغمرني إحساس غريب.إحساس من يملك التسجيل النادر الوحيد المتبقي لبلبل الشرق في أوبيدوم