قبل ربع قرن تعرفت إلى مجلة عربية للأطفال كان اسمها المزمار. كان لصديقي حسن الفضل أن أصبحت من قرائها. كنت أقتنيها، في البداية، من المكتبات العمومية، وبعد وقت قصير اختفت من المكتبات العمومية، ولم أعد أجدها إلا عند بابا أمين. احتفظت بعلاقتي طيبة مع بابا أمين حتى إلى ما بعد المرحلة الابتدائية. كان كشكه بجانب مدرسة بن خلدون. المدرسة التي قضيت بها طور الابتدائي. كان يبيع بالإضافة إلى الحلوى والمكسرات مجلات فنية عربية وأخرى أجنبية قديمة وحديثة. كان يقرضنا الحلوى إلى حين ميسرة. كنت ترانا لا نكف عن الالتفاف حول كشكه كالنمل على قطعة من السكر ليجود علينا بالحلويات، ونحظى بالتحديق في الصفحات الأولى للمجلات بل وتصفحها. كنت أمر عنده كل أسبوع. أحيانا حينما كان يراني من بعيد يلوح لي بالمجلة. أركض، بكل قواي، وبكل ما أوتيت من سرعة لأقطفها من يديه. كان يرتمي على قفاه، ويرتد إلى داخل كشكه من شدة الضحك. أحيانا أخرى كان يحلو له أن يلهو بأعصابي: لما كنت أسأله، في لهفة، عن العدد الأخير، كان يجيب مصطنعا بوجهه تقاسيم وحالة الأسف أنه لم يستلمه بعد. في البداية لم أكن أستطع أن أخمن أنه يخفيها عني ليستمتع بردود أفعالي. وعندما تستبد بي الخيبة يفاجئني بها. يحركها يمينا وشمالا، أمام عيني.. ولا تتصوروا مدى فرحتي وسروري. لكن في بعض الأحيان كانت المجلة تتأخر بالفعل، ومع ذلك كان يبقى عندي شك أن بابا أمين يلعب معي لعبته الأثيرية. كانت الشركة الموزعة للمجلة تبعث له عددا واحدا فقط يكون من نصيبي أنا. قارئها الوحيد. حسن تخلى عن اقتناءها، وأعطاني كل الأعداد التي كانت لديه. أصبح هذا الانفراد مصدر فخري وسعادتي. تفوقت بما كنت أستقيه منها من مواضيع وأجوبة على كثير من الأسئلة، وتفيدني في تحضير العروض لأننا كنا نفتقر إلى المراجع فيسعفني مزماري. ولكي لا ينافسني أحد أو يشاطرني تحفتي العطرة رجوت بابا أمين بأنانية طفولية ألا يطلع أحدا على السر، وأن يخفيها ما أمكن عن الأنظار. كان يطمئنني وهو يقرأ القلق في عيني من أن تضيع مني النسخة الوحيدة. كان يقول لي إنه حتى لو علقها بجانب المجلات الأخرى فلن يبيعها لأحد فيزداد تقديري واحترامي له لكنني كنت دائم الخوف من أن يسرقها أحد منه. كنت أعزي معاملته التفضيلية لنا، ولي أنا، بالخصوص إلى كونه كان يعيش وحيدا. زوجته ماتت منذ زمن طويل، ولم يرزق منها بأطفال. ربما هي الأبوة التي حرم منها كان يصب ما يفيض به قلبه منها علينا. ولأن الجميع، وكل شيء إلى زوال، ولا يدوم إلا وجه الله، فقد أزيل الكشك بقرار بلدي تحت ذريعة أن صاحبه تولاه الله برحمته. أصبح الرصيف والمدرسة بدون كشك بابا أمين يتيمان، وأصبحت بين عشية وضحاها محروما من جرعتي الأسبوعية. كان من بين أبواب المجلة باب للتعارف. وكان من الطبيعي لو تراسلت مع أصدقاء المجلة أن أختار صديقا نظرا لخجلي الشديد في مراسلة البنات. لكني وجدت نفسي أكتب لقارئة من المغرب بعثت بياناتها إلى ركن التعارف. وعندما أطلعت صديقي حسن على مشروعي الصغير، والذي كنت أعتبره سرا من أسرار الدولة، أشاعه في الفصل، وتمادى في الدعابة حتى بدأ زملائي يتفكهون علي، ويقولون إنني نويت الزواج بالمراسلة، وبسبب حسن تخليت عن مراسلتها.. * * * بعد ربع قرن.. * * * عدت من أحد الاجتماعات، ووجدت ملفا على مكتبي. كان منوطا بي التأشير عليه.. ياه.. كم هي صغيرة هذه الدنيا..! كان الملف يخص تلك الفتاة..! يكفي ذاكرتي النزر القليل من الترتيب لكي تسترجع أحداث الماضي الذي طار عبر الزمن، وحط كعصفور فوق مكتبي.. تساءلت: ماذا لو كان تشابه أسماء فقط..؟ ومع ذلك تشبثت بفكرة أن القدر يضرب لي موعدا..