قصري في الواجهة .. زاوية نرصد من خلالها كل ما ينشر في وسائل الإعلام الوطنية و الدولية من مقالات أو حوارات أو أشرطة تضم وجوها بارزة من أبناء القصر الكبير في المجالات العلمية و الأدبية و السياسية و الحقوقية و الرياضية و الفنية .. هي فرصة لنتذكر و يتذكر معنا القارئ الكريم أسماء قصرية لامعة تصنع الحدث انطلاقا من منصبها الوازن . وجه اليوم : محمد أسليم كاتب و باحث و مترجم المثقف لا يكون على درجة عالية من التعليم بالضرورة أجرى الحوار: لطيفة الزهراني - هل التعليم يحكم الثقافة بمعنى هل بالضرورة أن يكون المثقف على درجة عالية من التعليم؟ يبدو أن الجواب يتوقف على المراد بمصطلح «الدرجة العالية من التعليم». إن كان هو الوصول إلى أعلى أسلاك التعليم المؤسسي والحصول على أرقى الشواهد والدبلومات، فإن الجواب سيكون بالنفي لا محالة: ليس بالضرورة أن يكون المثقف على درجة عالية من التعليم، لأن مؤسسات التعليم ومقرراته، بكافة أسلاكها، بمقرراتها وببرامجها، وإن كانت تضخ الثقافة يوميا في عقول التلاميذ والطلبة، فإنها لا تصنع بمفردها مثقفين. مثلما ليس كل الجامعيين مثقفين ليس كل المثقفين جامعيين، مثلما ليس كل الأساتذة كتاب رواية أو شعراء ليس كل الشعراء أو القصاصين أساتذة. بكلمة واحدة التعليم المؤسسي وإن كان ضروريا ل «صناعة» المثقف، إن جاز التعبير، فإنه وحده غير كاف. وهذا أمر عاد جدا وشائع في جميع البلدان، ولا يعيب إطلاقا المؤسسات التعليمية لأنه لا يدخل في صلب وظيفتها... لا أعتقد أن هناك دولة ما اتخذت من «جعل المواطنين مثقفين» إحدى غايات أو أهداف سياستها التعليمية... ولعل هذا المعيار هو ما جعل عالم المستقبليات المغربي، المهدي المنجرة، يصرح بأن الأمية متفشية بين الأساتذة الجامعيين المغاربة بنسبة 70%... يقصد أن هذه النسبة وإن كانت ذات تكوين عال جدا، فإنها تظل أسيرة المادة التعليمية والتخصصات الضيقة وتجهل ما تعج به الساحة الثقافية من منشورات إبداعية ونقدية ومعارض تشكيلية وندوات... أما إذا كان المراد ب «الدرجة العالية من التعليم» هو مواظبة المرء على استهلاك المنتوجات الثقافية بكافة أشكالها (الفكرية والإبداعية، المكتوبة والسمعية البصرية) لإشباع حاجيات ذاتية قد تؤدي به إلى الانتقال إلى الفعل في الساحة الثقافية نفسها عبر ولوج دائرة الإنتاج، فإن التعليم يحكم الثقافة بالتأكيد: لكي يكون الإنسان مثقفا لابد أن يكون على درجة عالية من التعليم، بل يمكن القول إن هذه الدرجة هي التي تؤهل المرء لنيل الوضع الاعتباري لما يصطلح عليه ب «مثقف». كيف يتم الحصول على هذه الدرجة العالية من التعليم؟ بمجهود شخصي يتمثل في المواظبة على المطالعة وتنويع الاهتمامات الفكرية بشكل يجعل ما تم تلقيه في المدرسة والثانوية والجامعة - مهما عظم وكبر وتشعب وتنوع - مجرد حلقة في صيرورة أو خطوة ضمن مسيرة أو شرارة محفزة... المؤسسة التعليمية بوابة تفضي إلى أماكن شتى في المجتمع، فيمر منها الطبيب والمهندس وربان الطائرة، الخ. وليس مطلوبا من كل هؤلاء أن يكونوا مثقفين، بيد أن هذا لا يمنع أن نجد ضمنهم من يلج الوضع الاعتباري للمثقف بالقدر نفسه الذي نجد شخصا غادر سلك التعليم في وقت مبكر، ثم ولج الوضع الاعتباري نفسه، فنصادف طبيبا يكتب الرواية أو الشعر أو النقد الأدبي كما نعثر على مثقف وازن في الساحة الثقافية لبلاده – أو ربما اخترقت أعماله بلاده لتتجم إلى لغات العديدة – دون أن تطأ قدمه الجامعة طلبا للتعليم في يوم من الأيام. والسر في الحالتين معا يعود إلى نيل درجة عالية من التعليم بمجهود ذاتي... - مادور المثقفين والأدباء في تفعيل أسبوع القراة للجميع؟ تطرح كلمة «القراءة للجميع» لبسا لا يرفعه إلا الجواب عن السؤالين: ما المقصود ب «القراءة» وما المقصود ب «الجميع»؟ مثلما القراءة قراءات كذلك فالجميع جموعٌ: المتصفح للجرائد اليومية والأسبوعية هو شخص قارئ، والمواظب على قراءة صادرات الساحة الثقافية من مجلات وملاحق ثقافية وإصدارات فكرية وإبداعية هو أيضا شخص قارئ، ولكنه يختلف عن الأول بقدر ما يختلف عن شخص آخر له جميع مؤهلات القراءة، لكن هذه الممارسة ليست واردة عنده في جدول الأعمال اليومية، إذ تراه يضع كتبا في المنزل يشتريها حسب المزاج مثلما يقرؤها حسب المزاج... عندما نرفع شعار «القراءة للجميع»، فإننا نواجه للتو بمجموعة من الأسئلة، أهمها: - هل المقصود هو تعميم القراءة، بصرف النظر عن المقروء، بغاية الانتقال بالمجتمع من مجتمع شفهي إلى مجتمع كتابي، بحيث تصير القراءة ممارسة يومية لدى كافة شرائح المجتمع، وبالتالي لا يبقى فرد واحد في المجتمع غير قادر على قراءة صحيفة أو سطور في شاشة؟ - أم المقصود هو توسيع دائرة قراءة ما يُنشر بحيث يقبل الناس بكثرة على شراء الكتب المنشورة، وبالتالي لا يطال الإفلاس ديوانا شعريا واحدا ولا رواية واحدة؟ الحالة الأولى تجعل تعميم القراءة مرادفا لمحو الأمية، وهو معنى يخص المجتمعات التي لم يكتمل دخولها لزمن الحداثة بعد، أي ما يصطلح على تسميته بالمجتمعات المتخلفة أو مجتمعات العالم الثالث أو دول الجنوب. إذا كان الأمر كذلك، فمفتاح الوصول هو السياسة التعليمية ووضع مخططات طارئة لمحو الأمية في أسرع وقت ممكن. والدور الوحيد الذي يمكن للمثقفين أن يقوموا به في هذا الصدد هو المساهمة في وضع خطة لمحو الأمية... أما الحالة الثانية، فتضعنا أمام ظاهرة عالمية، تعاني منها دول العالم المتقدم نفسها، وتتمثل في تراجع حجم مبيعات الكتب الورقية، أعمالا فكرية كانت أم إبداعية، وهو ما يعني عزوفا متزايدا للناس عن القراءة. هذا الأمر يجد تفسيره في المنافسة التي يلاقيها الكتاب الورقي حاليا من قبل بدائل جديدة تتمثل أساسا في الوسائط المتعددة والمطبوعات الرقمية (أقراص مضغوطة، الكتب الرقمية المودعة على شبكة الأنترنيت، الدوريات الإلكترونية، الخ). بيد أن هذا التفسير يظل جزئيا أمام حقيقة أعمق تتمثل في الانتقال من مجتمعات الحداثة إلى ما بعدها. هذا الانتقال هو بصدد إجراء تحولات عميقة، وفي كافة الأصعدة، على مجموع الميراث البشري الذي ظل ثابتا بهذا القدر أو ذاك مند قرون: التنظيم الاجتماعي، المؤسسة العائلية، السياسة، الاقتصاد، لكن المعرفة أيضا.... في هذا الصدد ليس الحديث عن «النهايات» مجرد موضة أو مزايدة كلامية. تم الحديث عن نهاية التاريخ، ونهاية العمل، ونهاية السياسة، ويجري الحديث أيضا عن نهاية عصر جتنبرغ بمعنى نهاية الطباعة الورقية ومعها الكتاب بمفهومه التقليدي، أي ذلك الجسد المادي المغلق لفائدة شكلين: شكل وفي جزئيا للتقليد، وهو الكتاب الذي يوضع في أقراص لينة أو مضغوطة، أو حتى مواقع بشبكة الأنترنيت، وشكل لا أحد يتكهن بمستقبله، هو الآن عبارة عن نص مفتوح أو ما يصطلح على تسميته بالنص التشعبي المتواجد في قواعد البيانات والشبكة... لقد اتخذت شعبة الوسائط التشعبية بجامعة باريس الثامنة من هذا الموضوع أحد اهتماماتها المركزية، ومما تركز عليه أعمال الفيلسوف بيير ليفي: - مجتمعات ما بعد الحداثة تتميز بالفعل بكونها ستكون مجتمعات معرفية، بمعنى أن كافة ضروب المعلومات، ومنها الثقافية، ستكون في متناول سكان الأرض قاطبة عبر الشبكات الرقمية، على رأسها الأنترنيت. - تجري الآن عودة من الكتابة إلى مشافهة الأصول، لكن بشكل حلزوني تصاعدي، إذ تتيح الشبكة حاليا للمبحرين تكوين جماعات تجمع بينها وحدة الاهتمامات (صالونات الدردشة والمنتديات)، تتبادل المعارف والخطابات بشكل آني، كما يلغي العمل الفكري أو الإبداعي المودع في الشبكة مجموع الوسطاء بين مؤلف الكتاب الورقي وقرائه لفائدة تواصل مباشر بين القارئ والمؤلف... في هذه الحالة، لا يمكن للمثقف أن يقوم بأي دور للتحفيز على القراءة، لأنه إن ينشد ذلك يحتل مكان الوسيط والوسيط لا مكانه له في السياق المطبوع بطوفان معلوماتي كما نرى... أما في حالة التشبث بالكتاب الورقي، المنقرض آجلا محالة، فيمكن للمثقف أن يقوم بدور التحفيز لملء الخانة الشاغرة من «الجميع» بتوظيف سلطته الرمزية التي لا زال يُعترف له بها في المجتمعات الكتابية، وذلك باللقاء المباشر مع قرائه الفعليين والمحتملين، إن كان كاتبا، أو إلقاء قراءات في أعمال، على مسمع قراء فعليين أيضا أو محتملين، إن كان ناقدا... ويبقى أن تسوية مسألة القراءة، في المجتمعات التي لم تستكمل دخول عصر الحداثة بعد، رهينة بالإجابة عن سؤال أعمق، وهو: هل يتعين إتمام ولوج الكتابة / القراءة للانتقال، بعد ذلك إلى حقل الرقم أم يجب تحقيق طفرة تتيح الالتحاق على الفور بالمجتمعات المعرفية التي هي بصدد التشكل في الغرب؟ - كتابي الأول... ماهو الكتاب الأول الذي قرأته ولازلت تعاود مطالعته بين فترة وأخرى والسبب ؟ لا أذكر بتاتا عنوان أول كتاب قرأته. وهذا النسيان، برأيي، قد لا يمكن تفسيره إلا بأحد أمرين: إما لكثرة ما يقرأ المرء من كتب أو لعدم أهمية أن يكون هذا المؤلف أو ذاك هو أول لقاء مع الكتاب... وفيما عدا مرحلة التكوين الأولي، التي كان يتم فيها الانبهار بهذا الكاتب أو ذاك، وبالتالي قراءة أعماله مرارا وتكرارا، فإنني - شخصيا - لا أجد في مكتبتي كتابا يأسرني بحيث أعاود مطالعته بين الفينة والأخرى عدا واحد، هو القرآن الذي يخرج برأيي للتو من دائرة نقاشنا لكونه كلاما غير بشري فيما نتناول الآن مكتوبات البشر... - هل لنا برحلة يسيرة معك في عالم القراءة ؟ فرق كبير بين أن يتعامل المرء مع الكتب المحتشدة في رفوف مكتبته باعتبارها أجسادا من أوراق وبين أن أن يتعامل مع الوثائق نفسها باعتبارها أشخاصا يكون كل واحد منهم حاملا لرسالة كلامية جاهزا لإلقائها حالما تأذن له بالكلام. الأول يفضي إلى التعامل مع الكتاب بوصفه شيئا جامدا، مثله مثل باقي الأشياء التي تؤثث المنزل... بينما يقتضي الثاني المضي أبعد: هؤلاء الأشخاص القابعون في مكتبتي، والذين يودون الكلام معي، بعد أن أذنت هم في مرحلة أولى من خلال شراء هذه العناوين وليس تلك، إنما يشكلون مجتمعا خاصا، افتراضيا، يتعالى عن الزمان والمكان: يجلس فيه الأحياء إلى جانب الأموات (محمود دويش إلى جانب جميل بثينة، ابن خلدون بجانب بورخيص، أرسطو بجانب أدونيس، الخ...) متعالين عن اختلافاتهم العرقية والجغرافية واللغوية... يترتب عن ذلك القراءة عندي سلوك يومي، وتتم بشكل متناثر. باستثناء الأعمال الروائية التي تتطلب قراءة مسترسلة من البداية إلى النهاية، فإن كل القراءات تتم بشكل متقطع. لا أقرأ كتابا واحدا دفعة واحدة، كما لا أسجن نفسي أسبوعا كاملا في قراءة كتاب، وإنما أقرأ مجموعة من الكتب دفعة واحدة. صفحات من هذا وصفحات من ذاك... وهذا السلوك مبني على قناعتين فكريتين وشعورين متعارضين: الأولى خلف كل نص أو كتاب يوجد مؤلف هو شخص في نهاية المطاف، وقراءته هي بديل عن كلامه الفعلي، ومن ثمة فهي استماع لقوله، وقضاء اليوم بكامله في الاستماع إلى شخص يفضي لا محالة إلى الملل ما لم تدع إليه ضرورة قصوى. الثانية أن القراءة وقود للفكر. فلو أرهفنا الإحساس بدواخلنا للاحظنا أن كل ما نقرأه لا يذهب سدى، وإنما يواصل الاشتغال بأذهاننا، في غفلة منا، فيطفو في ذهننا على شكل ما يبدو لنا أنه أفكار لنا أو أسئلة من اكتشافنا، أو فقرة نص من إبداعنا، الخ... ومادام الأمر على هذا النحو، فالأفضل أن نمد الفكر بوقود متعدد المصادر، أن نقرأ مادة متنوعة في اليوم. أما الشعور المتعارض، فيتمثل فيما يلي: ثمة من الكتب ما يكون جميلا جدا ورائعا، لكني أحجم عن إتمامه مرة واحدة، فأعمد إلى تقطيع قراءته، لأستهلك لذة القراءة أقساطا. بهذا المعنى تكون قراءةُُ ملاذا من ملل - أومكافأة عن تعب – قراءة أخرى... لم أستند أبدا في قراءاتي إلى هذه الخطاطة الفكرية. طالعتُ على الدوام بعشوائية، وفوضى أحيانا، وكان للسؤال فضل الاهتداء إلى الوجود الضمني لهذه الخطاطة ...