لما أتيت إلى هولندا سكنت في حي غالبيته يقطنه الأجانب ذهلت وصعقت من هذه الصورة، فالتي كانت في مخيلتي أنني سأجد اللون الأبيض والشعر الأشقرمنتشر في كل مكان، قلت في نفسي هل أنا أقطن فعلا بحي من أحياء هولندا أو أن هذا فقط حلم وإنني ما زلت بمدينة مسقط رأسي وبالضبط في الحي الذي ترعرت ونشأت فيه وأنني لم أسافر بعد، ما أيقضني من غفوتي هاته شيئين اللغة والشكل العمراني للمباني ما لم يكونا لقلت إني تهت عن نفسي. سألت أصدقائي ما السر الموجود في هذه المسألة كان جوابهم كالتالي: الهولنديين يحبون السكن بعيدا عن الضوضاء كما أنهم يجدون راحة وأمنا في السكن قرب بعضهم البعض أما الأجانب فيجدون في عائلاتهم وأحبابهم وأصقائهم الملاذ الآمن لذلك تجد حيا يقطن فيه أغلبيته المغاربة حيا آخر مكون من الأتراك والآخر من السرنام وحيا مختلطا فيه المغاربة والأتراك والسرنام وقليل من الهولنديين، لوحة مزركشة من الألوان والأجناس المختلفة غير أنه في كل بقعة من اللوحة يطغى لون معين، فالحي الذي كنت أقطن فيه سابقا تجد فيه محلات تجارية ولكن تحمل طابع وهوية كل جنس وكل فئة من التجار تشتهر بنوع معين من التجارة فالمغاربة معروفون بمحلات الجزارة والسمك والأتراك بالمحلات التجارة الكبيرة وبالمخبزات والسرناميين بالبضائع المستوردة من الهند. عند دخولك للتبضع في محل ما تجد أصحابه وأغلبية زبنائه من عرق واحد فالمحل التجاري التركي يشتغل فيه الأتراك ربما تجده لا يحسن التكلم بالهولندية ورغم ذلك له جرأة غريبة في التحدي ولو تطلب معه الأمر في بعض الأحيان التحدث معك بلغة الإشارات، نفس الأمر للمشاريع المتعلقة أفراد الجالية المغربية فتجد زبنائها مغاربة عندما تدخلها تجد اللغة المغربية هي السائدة وبما أنني أقطن في مدينة أغلب المغاربة أصلهم من أهل الريف فاللغة الأمازيغية هي المتداولة بينهم بيني وبينكم في البداية وجدت صعوبة كبيرة في التأقلم والإندماج خاصة مايتعلق بمشكل اللغة الذي أرقني في البداية إذا ذهبت إلى الهولنديين يتكلمون لغتهم الهولندية وإذا انضممت إلى مجموعة من المغاربة أجد أن لغة التخاطب بينهم الأمازيغية فأصبحت تائها بين المجموعتين، ولكن الحمدلله تجد من المغاربة من يحس بوحدتك ويشاطرك نفس اللغة ومنهم من يتنازل ويضمك إلى المجموعة كما أنك تجد من لا يأبه بوجودك أصلا وكأنك منعدم ولله في خلقه شؤون. الأجنبي إذا تكلم بالهولندية من أول وهلة تعرفه بأنه غير هولندي أصيل فمن نطقه بالهولندية ومن مخارج حروفه يظهر لك بأنه أجنبي ولو كان لونه أبيض وشعره أشقر. في حي الأجانب توجد أماكن للعب للأطفال فعندما تنظر إليهم وهم يلعبون وتسمع إلى كلامهم وهم يتحدثون تجد أنك طائر محلق بين الأقطار تجد أطفال من تركيا يتكلمون التركية يصرخون ويركظون وآخرون من المغرب بعضهم يتكلم الأمازيغية والقليل منهم من يتكلم العربية تجد كذلك أطفال السرنام ومن أوربا الشرقية ومن الصين فسيفساء من أطفال من أجناس مختلفة، ولكن ما يوحدهم أنهم إذا اشتركوا في اللعب فاللغة الهولندية هي التي توحدهم. الأطفال هنا عندهم حب كبير للمدرسة بحيث أن الطفل الذي ليس له هذا التعلق يكون قاعدة استثنائية، فرغم أن أبناء الأجانب لهم حرية الكلام بلغتهم خارج المدرسة إلا أن مناهجهم وطريقة تربيتهم تدفع الأطفال إلى حب اللغة الهولندية وبشكل جنوني. وإلى أن يهتم مسؤولينا باللغة العربية ويعطوها حقها كما ينبغي لها ويتم تحبيبها لأطفالنا يبقى للمستور بقية.