فرض الحجر الصحي كنتيجة حتمية لانتشار كوفيد 19 ،فالتزمت به كغيري من الملايين حول العالم فحرمت من الخروج للعمل وممارسة رياضة المشي في الصباحات التي لا أعمل فيها. أقنعت نفسي بكل الخوف الذي اعتراها بأن كل ما يحدث هو خير ،وأن البقاء في البيت هو فرصة للاختلاء بالذات وفرصة أيضا للكتابة والقراءة ،فصنعت من أوراق الكتب وخيوط الأمل النابعة من عمق الروح طائرة ورق أسافر بها الى أمكنة متعددة وأزمنة مختلفة ، فوجدتني أبحث في مكتبتي عن كتب لم أقرأها بعد ومن بين الكتب التي قرأتها في زمن الحجر الصحي رواية اسم الوردة للكاتب الإيطالي أمبرتو ايكو قام بترجمتها للعربية الدكتور محمد الصمعي. تدور أحداث الرواية داخل دير مسيحي إيطالي سنة 1327م حيث ترتكب سلسلة من الجرائم الغامضة يذهب ضحيتها مجموعة من الرهبان بمكتبة الدير البندكتي ،فيتولى الراهب الفرانسسكاني غوليالمو مهمة التحقيق رفقة تلميذه أديسو دي مالك الراوي وصاحب المذكرات ليتوصل في النهاية الى القاتل الحقيقي الذي لم يكن سوى الراهب الأعمى يورج والذي اعتمد طريقة ذكية في قتل الرهبان تمثلت في وضعه لسم قاتل بين دفتي كتاب كان الرهبان الشباب متحمسون لقرائته وكلما وضعو أصابعهم في فمهم لقلب صفحات الكتاب القديم يتسرب السم الى أجسامهم و يتسبب في مقتلهم .تنتهي الرواية باحتراق الدير فتلتهم ألسنة اللهب كل المرافق بكل ما تحتويه من ذخائر ونفائس بدءا من المكتبة العظيمة . لقد أبدع أمبرتو ايكو في وضع مزيج بوليسي ،فلسفي ،تاريخي فتناول حقيقة الوجود الإنساني وخبايا النفس البشرية و تطرق للصراع القائم بين الطوائف المسيحية واتهام كل واحدة منها للأخرى بالهرطقة كما تطرق أيضا للعلاقة بين السلطة الحاكمة المتمثلة في الامبراطور وبين رجال الدين التي تتأرجح بين العداوة والتحالف حسب ما تقتضيه المصلحة السياسية . من القضايا الواردة في الرواية نجد تطرف بعض رجال الدين المسيحيين وهذا التطرف المقترن بالجهل متفشي في جميع الديانات منذ القدم الى وقتنا الراهن هذا التطرف الديني يتم التركيز عليه من طرف الاعلام الغربي كظاهرة خاصة بالدين الإسلامي فقط في حين أنه موجود في كل الديانات السماوية ففي المجتمعات الغربية أيضا ظهرت أحزاب يمينية متطرفة اختلطت في مفاهيمها الأفكار العنصرية والدينية والسياسية ،وقد شاهدنا في زمن كورونا استنكار بعض المتطرفين لاغلاق دور العبادة وكيف أن بعض المتشددين اليهود رفضوا الارشادات المتعلقة بمنع الاختلاط ونظموا صلوات جماعية وأعراس وجنائز مما زاد في ارتفاع عدد الإصابات في دولهم ،كما نقل عن أحد رجال الدين المسيحيين في ولاية لويزيانا لأمريكية قوله أن ألفا من المسيحيين حضروا عيد الفصح الذي أقيم في كنيسته رغم الحضر الذي فرضه حاكم الولاية على التجمعات التي تضم أكثر من خمسين شخصا .وقد تحدى بعض المسلمين الباكستانيين قرار الدولة بمنع الصلاة في المساجد بسبب تفشي كوفيد 19 مما سبب مواجهات مع الشرطة .أما في بلدنا فقد خرجت شرذمة من الجهلاء للتكبير ليلا وسط الشوارع في الوقت الذي فرضت فيه الدولة الحجر الصحي كإجراء احترازي من الوباء . في رواية اسم الوردة يشيد المؤرخ أمبرتو ايكو بتقدم المسلمين وسبقهم في العلوم خاصة الطب والفلك ويذكر مكتباتهم ومدنهم في عدة مواضع من الرواية فعلى سبيل المثال نقرأ في الصفحة التاسعة والخمسون ما قاله المحقق غوليالمو لرئيس الدير :أعلم أن ديركم هو النور الوحيد الذي تقدر المسيحية أن تضاهي به مكتبات بغداد الست وثلاثين ،والعشرة الاف مخطوط التي يمتلكها الوزير ابن العلقمي ،وأن كتبكم المقدسة تعادل الألفين وأربعمائة مصحف قراني التي تتباهى به القاهرة . طالت فترة الحجر الصحي، وكان الكتاب خير جليس لي مع أسرتي الصغيرة ولعل القراءة كانت من احدى حسنات الحجر الصحي فلا وسيلة غير الكتاب تسمح لك بالتنقل بين الأماكن في وقت أصبح فيه التنقل يحتاج الى ترخيص من السلطة.