كانت أول مرة أسمع فيها اسم الفيلسوف والمفكر والروائي الإيطالي أُمبرتو إيكو المتوفى مساء يوم الجمعة 19 فبراير 2016 بعد أن نيف على 84 عاما،خلال مرحلة الجامعة وخاصة مع أستاذ مادة السيميائيات (الدلائلية أو علم الأدلة السيميولوجية)، إذ ظل اسمه يتردد أمامنا كما تتردد أسماء عدد من المفكرين والفلاسفة، أو من خلال الكتب التي كنا نسمع عنها وقلما طالعها أحدا منا، ككتاب (الأثر المفتوح Opera aperta ) سنة 1962 و (دراسة في السيميوطيقا العامة Trarttato di semeotica generale) الصادر سنة 1975 أو (القارئ في النص lector in fabula) الصادر سنة 1979، وكان أستاذ السيميولوجيا وقتها يستعرض علينا عضلاته بإعادة نطق العناوين بالإيطالية ونحن نتسابق في تدوين كل ما يقول.. والحق أنني لم أتمكن من التعرف على قوة هذا الفيلسوف حتى تمكن أحمد الصمغي ورفاقه التونسيون من نقل رواية (اسم الوردة ) الى العربية عبر دار أويا الليبية مع مطلع تسعينيات القرن الماضي، فشكلت اللقاء الحقيقي مع هذا المفكر ، وظلت افتتاحية المترجم عالقة بالذهن لا تبلى : (عزيزي القارئ :بين يديك كتاب هز الأوساط الأدبية ، خلال الثمانيات، داخل إيطاليا وخارجها،ولا زال النقاد يجتهدون في تأويله وفي دراسة خصوصياته الأسلوبية والمعنوية). ظل اسم أمبرتو إيكو متداولا بين المفكرين كفيلسوف وسيميائي منظر لبنية النص الأدبي ورموزه وعلاماته إلى ثمانينيات القرن الماضي، لكن الوجه الذي أطل به على العالم من خلال عمله (اسم الوردة) جعله يفرض اسمه كواحد من أهم الروائيين المعاصرين ، وهي رواية عصية على التجنيس لأنها رواية بوليسية، وتاريخية وفلسفية ،ودينية وأكثر من ذلك في الوقت ذاته، جاء في ظهر الترجمة العربية للرواية أنها: (تقص ما كان سابقا، أو ما يحدث الآن أو ما سيأتي ). تدور أحداث (اسم الوردة ) في العصر الوسيط، وخاصة سنة 1327 حين كانت المسيحية تعيش أحلك فتراتها : البابا ينازع الإمبراطور البافاري السلطة على إيطاليا، والكنيسة مقسمة بين فريق لا هم له إلا جمع المال والانغماس في الرذائل، وفريق ثائر يحاول بكل السبل إرجاع الكنيسة إلى نقاوتها. في هذا الجو يلتحق بالدير الراهب ويليم ويجد أمامه سلسلة من جرائم القتل الغامضة التي يذهب ضحيتها قساوسة ينتمون للدير، ويسود الاعتقاد بوجود أرواح شريرة تسكن الدير وتستهدف رجاله، ولأن «ويليم» يمتلك قدرة على التحليل المنطقي و لا يستسلم للاعتقاد السائد بكون الجرائم سببها الأرواح الشريرة، يبدأ رحلته مع الأسرار التي تكشف له، في مسار مشوق ، أن القاتل يعيش في أروقة الدير. ما جعل من (اسم الوردة) عملا ناجحا بكل المقاييس هو معرفة الكاتب بتفاصيل المرحلة ، ومخزونه المعرفي عن القرون الوسطى، أفكارها ومذاهبها، فكانت حوارات ويليم حوارات رجل عاش في مرحلته ،إضافة إلى قدرة الكاتب على تنميط الأحداث لدرجة يعتقد القارئ أن تلك الأحداث تدور اليوم أمام عينيه... حاول أمبرتو إيكو معاودة كتابة الرواية، فألف سنة 1988، روايته الثانية «بندول فوكو» وهي لا تقل أهمية عن الأولى من خلال الغوص أكثر في التاريخ والثقافة عبر قصة ثلاثة محررين قرروا البحث عن خريطة فكرية للعالم تسمح بفهم أكبر لأحداث التاريخ ولوجود الإنسان نفسه، وتأخذهم رحلتهم هذه إلى أزمنة متنوعة: القرون الوسطى، حيث الحروب الصليبية في الشرق، مروراً بأمريكا اللاتينية حيث تتجذر ديانات قديمة مجهولة، وأمكنة مختلفة من أوربا وأميركا الجنوبية والشرق. في سنة 1994 يسافر أمبرتو إيكو مجددا بالقارئ ويأخذه في رواية «جزيرة اليوم السابق» إلى سفر تاريخي ويرتد به إلى الوراء أربعمئة سنة تقريباً ليعرض حرب الإمبراطوريات الكبرى للحصول على خريطة خطوط الطول ودوائر العرض على سطح الكرة الأرضية والتي ستسمح لمن يمتلكها بمعرفة موقع أساطيله التجارية والحربية في المحيطات البعيدة، وهو ما يعني فرض هيمنته على الجميع. ومع مطلع الألفية الثالثة، قدم أمبرتو إيكو روايته الرابعة وهي الأخرى رحلة إلى عوالم تخصص إيكو ليتابع القارئ مع بطل الرواية «باودولينو»، وهو عنوان الرواية، رحلة يمتزج فيها الواقع بالخيال، في عمل فانتاستيكي تاريخي يعيش من خلاله البطل أحداث سقوط القسطنطينية، ومحاربة جماعة «الحشاشين»، ويلتقي بمثقفي باريس، وبفيلسوفة الإسكندرية المتنورة هيباتا ( التي جعلها يوسف زيدان إحدى أبطال رائعته عزازيل)، كما سافر إلى الفردوس المفقود بحثاً عن حقيقة الأسطورة اليهودية. وفي سنة 2010 أصدر روايته «مقبرة براغ» ، يكشف إيكو ضمنها النقاب عن بعض الحقائق التاريخية التي يتم التكتم عليها أو إخفاؤها، من خلال إبراز أن هناك مركزية عالمية تسعى إلى إبقاء العالم مستنقعا للحروب ولترويج الضغائن والأحقاد والانتقامات، ومسرحا لخلق البلبلة والقلاقل باطراد، حيث تسعى سلطة الخفافيش لتسييد العتمة والشرور. وقبيل رحيله ، ودع قراءه بعمل جديد اختار له عنوان «العدد صفر- NUMERO ZERO» ، وهي رواية صدرت سنة 2015، يحكى أنها رواية تنتقد (نظرية المؤامرة، من خلال التحقيق الصحفي الغريب الذي يقوم به الصحفي براغادوتشيو عن مقتل موسوليني،) ولم يتسنى لنا بعد مطالعة أخر أعمال الفقيد هذا الذي قد نعود له في قراءة خاصة .. بعد هذه الأعمال الروائية الستة يختار أمبرتو إيكو إلقاء عصاه ليخلد لراحة أبدية سيظل بعدها متداولا بين الفلاسفة، وعلماء السيميولوجيا والمهتمين بالأدب والرواية خاصة، وستبقى رواية (اسم الوردة) من الروايات الخالدة في الثقافة الإنسانية لا يمكن إلا أن تترك اثرها في وعي ولا وعي قارئها...