أحببتها منذ النظرة الأولى، و كان أول لقائي بها بالقرب من الباب الرئيسي لأكبر سينما في المدينة. كانت فتاة إسبانية جميلة، بملامح عربية. شعر رأسها كان أسودا، و كانت قسمات وجهها متناسقة، و كانت إذا ضحكت ، أصبحت أكثر جاذبية . كانت ذات عينين سوداوين يعلوهما حاجبان رقيقا ن و كأنهما قصا بعناية، أنفها كان قائما يوحي بأنفة و كبرياء تلك الفتاة. قامتها كانت هيفاء، وتمشي الهوينى، وكانت بذلك تزداد أنوثة. كنا نحن ثلة من المراهقين، نتحين الفرص لنراها، و كذا نمر بالقرب من منزلها طمعا في أن نلقاها واقفة تتجاذب أطراف الحديث مع صديقاتها، و عند عدم العثور عليها كنا نعرج على ورشة أبيها الميكانيكي، و ننتهي أمام الكنيسة أو باب السينما. كانت كلما أطلت بمشيتها المتميزة ، هلل الأصدقاء، بينما أنا ، كنت ألوذ بالصمت. كنت قد لاحظت ، قبل ذلك ، أنها كلما مرت أمامي ، حدجتني بنظرة جانبية مرفوقة بابتسامة خفيفة. كان قلبي يكاد يقفز من صدري، و كنت أسمع نبضاته القوية في أذني، و كنت لا أطيق ذلك الخفقان لأنه كان يخيفني، و بعدها بوقت قصير كنت أشعربأحاسيس غريبة علي ، و كانت تسعدني. كنت أهيم في حبها، و أظل ، طيلة اليوم، تارة أهذي و أخرى أحلم. و مرارا لمت نفسي على عجزي الإفصاح لها عن مشاعري. و قررت أكثر من مرة أن أصارحها، إلا أنها كلما مرت أمامي إلا و أصبت بالخرس و شلت أطراف جسمي. و في خفية و خلسة من أصدقائي، كنت أجول وحدي ليلا في حيها لعلني أراها أو ألقاها. نعم، كنت متأكدا ، بأنها تميل إلي و تهتم بي و تستلطفني، و لم أكن قادرا على البوح بذلك السر الثمين لأصدقائي. و في يوم ربيعي بسمائه الصافية و نسائمه العليلة و روائح أزهاره الفواحة، كنت كما العادة ، بمعية أصدقائي نجلس في مكاننا المعتاد ، ننتظر مرورها اليومي ، اقتربت منا بمشيتها المثيرة . ابتسمت لي من بعيد، و عندما تجاوزتنا، توقفت ، و نادتني باسمي. لم أصدق في أول الأمر، و ظننت أنني أتوهم صوتها يناديني. ثم أعادت الكرة. لم أتحرك. امتقع لون وجهي، و بدأ قلبي يخفق من جديد ذلك الخفقان الذي يخيفني. حاولت الاستجابة لندائها فلم أستطع ، لقد شلت أطراف جسمي كما هي العادة ، و أصبت بالبكم. نبهني الأصدقاء إلى ندائها،فقررت مقاومة عجزي ، و استجمعت قواي و اتجهت نحوها، إلا أني عندما اقتربت منها بدأت أخطو خطوات مترددة، و كأنني فقدت البصر، و أحاول جاهدا تفادي السقوط. وقفت في مواجهتها، تأملتها، كان وجهها صبوحا و صافيا و جميلا، تحمل في خدها الأيسر و بالقرب من فمها “خالة” زادتها بهاء. كانت رائحة عطرها فواحة ، ومنذ ذلك الحين أتهيء بين الفينة و الأخرى أنني أشمها. قالت لي بصوت خفيض و ناعم: ” إدريس، سترحل عائلتي بكل أفرادها إلى مدينة ” مالقا” بإسبانيا، ولن تراني بعد اليوم.” سكتت لبعض الوقت، ثم تلعثمت و قالت:” لقد أحببتك، مع السلامة”، ثم بحركة أنثوية خفيفة، قبلتني على خدي الأيمن و انسحبت بسرعة، بينما ظللت ، أنا ، صامتا، أخرس ، لا أتكلم، طيلة اليوم، و غير مصدق لما وقع. مرت الأيام ، و تعودت بصعوبة العيش في مدينتي الصغيرة المهمشة، من دون رؤية ” كارمن”. و مرت السنون، و تقدمت في السن كما أصدقائي، و فرقت بين الجميع ، السبل. وكانت كلما أتيحت لنا فرصة اللقاء ، تذكرنا ” كارمن” تلك الإسبانية الجميلة. وفي صيف 2012، قررت بصحبة زوجتي قضاء عطلتنا السنوية بالجنوب الإسباني. و بحلولنا بمدينة ” مالقا”، شعرت بالرهبة، و كنت أعي ، أن هذا الشعور، مبعثه خوفي من لقاء” كارمن” بعد طول غياب. في آخر يوم من إقامتنا في ” مالقا”، و أثناء تواجدنا بحي” لاريوس” حيث تكثر متاجر الملابس الجيدة و الأنيقة، سمعت مناديا ينادي: ” ” كارمن”، انتظري!”. و لأنني أنتبه جيدا، كلما سمعت اسم” كارمن”، التفت إلى الخلف لمعرفة مصدر الصوت، فإذا بي أرى امرأة متقدمة في السن، ممتلئة الجسد، شعر رأسها قصير أصفر و ذابل. كان يحيط بها شابين و رجل متقدم في السن ، ابيض شعر رأسه. فهمت أن هذه السيدة كانت برفقة زوجها و ابنيها. تأملت هذه السيدة التي كانت تمشي ببطء. ذكرتني فعلا ب”كارمن” الصغيرة، فتاتي. انطلقت نحوها كالسهم، اعترضت سبيلها، و خاطبتها: ” سيدتي، إني أجنبي، و أريد أن تدلني على الطريق المؤدية إلى ” القصبة”. اغرورقت عيناي بالدموع، عندما عاينت على خدها الأيسر تلك ” الخالة”. يا إلهي ! إنها ” كارمن”، أنا لا أصدق ما يقع. أين اختفى ذلك الجمال؟ إنها أحكام الزمن و التقدم في السن. هكذا ظلت الأسئلة تتناسل في خلدي لمدة ليست بالقصيرة، وأنا جامد في مكاني، محاولا أن لا أنهار. كنت أشاهد شفاه السيدة الإسبانية تتحرك ولم أكن أسمع ماتقول. كنت أتأملها فقط.و أخيرا سمعتها تقول:” ما بك سيدي، هل تشعر بشيء غير طبيعي؟” استفقت من غفوتي، و أكدت لها أنني بخير، انتاب الخوف زوجتي و استفسرتني عن حالي. عرفت السيدة الإسبانية أننا مغاربة، ابتهجت للأمر، و كأنها طفلة صغيرة، ثم أخبرتنا أنها عاشت طفولتها و مراهقتها في المغرب. دعتنا إلى منزلها ، شكرنا لها لطفها. و بعد اطمئنانها على حالتي،انصرفت إلى حال سبيلها، و هي تنادي أحد أبنائها للالتحاق بها: ” أندريس”، إننا ماضون، هيا ، لقد تأخرنا” انسحبت بلطف ، تأملت السيدة الإسبانية” . إنها ” كارمن” الكبيرة، لم تعد جميلة، كما كانت ، لكن قلبي مع ذلك خفق ذلك الخفقان المخيف، كما كان يحصل في الماضي عندما كانت تمر أمامي.