“أبي” السيد كريستيان أنا مدين له بحياتي، أعتقد لو أني قدمت له روحي فلن أستطيع مع ذلك أن أوفيه حقه، بفضله أنا الآن بينكم ولولاه لكنت مثل جرو متشرد وجائع ، هو من تكفل بسكني وتعليمي. قد يعترض أحدكم على كلامي ويقاطعني قائلا : ” ما العجب في هذا؟ كل الآباء يفعلون ذلك من أجل أبنائهم، والسيد كريستيان ليس استثناء ” لو أنكم صبرتم علي بعض الوقت لأخبرتكم أن السيد كريستيان ليس والدي البيولوجي لكنه هو من تكفل بي حين حملتني والدتي ذات ليلة ممطرة وأنا مازلت حديث الولادة ووضعتني على عتبة المبعد. يقول السيد الكاهن أن صراخي في تلك الليلة كان أشد وقعا على الأذن من كل أصوات الأجراس المتدلية من أعلى الصومعة . حملني الكاهن إلى فضاء المعبد الرحب حيث بت ليلتي الأولى في ضيافة الرب. في الصباح تجمهر أهل القرية أمام المعبد يستفهمون عن صراخ الصبي الذي سُمع ليلة البارحة. أخبرهم الكاهن عن الرضيع الذي وجده ملفوفا في قماط أبيض عند البوابة الرئيسية للمعبد. صاح العمدة في الناس: ” مَن مِن نساء القرية كانت حاملا في شهرها الأخير؟” عم صمت ليس بالقصير واعتلت الدهشة والحيرة وجوه الأهالي، فلم يكن في القرية كلها امرأة تنتظر مولودا، فقط السيدة ماريا من كانت حاملا لكنها ماتزال في شهرها الرابع ولا يمكن أبدا أن يكون هذا الرضيع هو جنينها الذي لم يتشكل بعد إلى هيئة طفل. انتفض فجأة الولد ليو صياد السمك وقال مرتبكا وبحماس ” أكيد إنه ابن سارة الغجرية لقد شاهدتها الشهر الماضي في الحفل الذي ينظمه الغجر ليلة كل يوم سبت رأيتها تعزف على آلة كورديون وتتحرك ببطء شديد وبدت بطنها منتفخة” ، تذكر الكاهن ساعتها الغجرية التي زارت المعبد قبل يومين وكيف بدا صوتها ضعيفا يتخلله الكثير من الشهيق الصامت والمكتوم حين استرسلت تبوح له من داخل غرفة الاعتراف عن المعصية التي تحملها في أحشائها وعن عزم الغجر الثأر من المولود بالقتل مجرد قدومه إلى الدنيا. صاح الحاكم من جديد ” إذن مكان هذا الرضيع هناك في الجبل حيث الغجر وليس هنا، لا أقبل أن يصير هواء القرية ملوثا بأنفاسهم القذرة” لم يجد الكاهن الجرأة لكي يعترض على قرار الحاكم ويعرض بذلك نفسه لغضبه الشديد وانتقامه الرهيب، تقدم السيد كريستيان الذي تطوع أن يحمل الصبي إلى الغجر لكنه وفي غفلة من الحاكم وأهالي القرية عوض أن يصعد الجبل اتجه متسللا صوب كوخ على مشارف القرية وسط المقبرة هناك كان يعيش العم توماس الحفّار وزوجته إليزابيت وترجاهما أن يحتفظا بالصبي معهما. اقتنع السيد كريستيان أن الصبي سيكون آمنا في مكان لا يزوره الناس إلا ناذرا كما أن السيد توماس وزوجته إليزابيت كانا يرغبان منذ زمان في طفل يملأ حياتهما ببعض الفرح والبهجة. بعد أيام عُثر على سارة الغجرية ميتة قرب الوادي، المسكينة آثرت أن تموت لكي تمنحني أنا الحياة، بقدر ما كرهت والدي البيولوجي الذي تخلى عني وعن والدتي بقدر ما كنت مدين للسيد كريستيان بحياتي . لعلكم مازلتم تتذكرون حين أخبرتكم أني لولاه ما كنت الآن بينكم. كان بيت العم توماس منعزلا يقع في تلك المنطقة الفاصلة بين الجبل والقرية، كبرت بعيدا عن أعين الناس وعندما صرت أذهب إلى المدرسة كان الجميع يعتقد أني ابن العم توماس الحفار بينما في قرار نفسي كنت أشعر أني محظوظ جدا وأختلف عن بقية الأطفال لأني لا أملك أبا واحدا ولكن أبوين أثنين: العم توماس الذي أحمل اسمه في الاوراق الرسمية و أبي كريستيان الذي يتكفل بمصاريف طعامي ولباسي وتعليمي وعندما كبرت أكثر علمت صدفة وأنا أتصنّت إلى وشوشة بين السيدة إليزابيت والعم توماس أني لقيط ، كان الأمر مفزعا حقا فأنا الذي كنت أعتقد لسنوات أني أملك أبوين صرت فجأة مقطوعا من شجرة من غير أب! أحببت أن أرافق العم توماس كل صباح إلى سفح الجبل بالقرب من شلال ماء، كان صوت ارتطام الماء القادم من قمة الجبل بالأرض يفوق بكثير صوت فأس العم توماس وهو يسحبه برفق إلى السماء ثم يهوي به بكل قوته ليكسر قشرة الأرض، عندما كان يتوقف عن الحفر لكي يستريح بعض الوقت أَلفت أن أسمعه وهو يقول همسا ” الأرض لغز كبير في باطنها تاريخ الأمم السابقة” ، صرت مثله أحفر بشغف كبير أبحث عن أي لغز قد ينسيني لغزي الكبير، لغز مولدي وقدومي الغريب إلى الدنيا ، لا أدري هل هناك من لغز يفوق في أهميته وقيمته لغز ” الوجود”؟. ونحن في طريقنا إلى السوق لكي نبيع ما كنا قد وجدناه في باطن الأرض من معادن أو أوانٍ كنت أسأل العم توماس أن يحكى لي عن والدتي ” سارة” الغجرية. نزل الغجر ذات صباح باكر واستوطنوا الجبل ونصبوا خيامهم وصاروا يمارسون طقوس عاداتهم وحياتهم الخاصة، لم يستغرق الوقت كثيرا لكي يتعودوا على العيش هناك فهذا حال الغجر كل أرض بالنسبة لهم هي وطن، في المساء شاهد أهالي القرية ألسنة النار كانت تتراءى من بعيد وانتهى إلى سمعهم ايقاع الموسيقى والرقص، صار الناس فرادى وجماعات يصعدون الجبل ليتفرجوا على هذا الكرنفال العجيب، في خضم زحمة الفرجة وصخب الموسيقى والرقص كانت تجلس فتاة في ربيعها السابع عشر عند ربوة تحمل آلتها الموسيقية كورديون لم تكن تعزف كانت هي في حد ذاتها معزوفة جميلة والناس منتشون بالنظر إليها، لبست فستانا للفرح يحتفي بكل ألوان الطيف: الأصفر والأزرق والأحمر والبنفسجي بينما شعرها الأسود بلون الليل منسدلا إلى الوراء يغطي الجزء العلوي من ظهرها العسلي المكشوف، عيناها الواسعتان برموش كثيرة تخيلت للوهلة الأولى أنهما سودوان قبل أن أكتشف أنهما بلون البحر، هذا الجمال المستحيل بين زرقة العيون وسواد الشعر وعسلية البشرة لا يمكن أن تجده إلا عند أفروديت إلهة الجمال عند الإغريق، قامت ترقص وهي تضرب بقدميها الأرض لتصنع من ايقاع رنين خلخال كحلها ومن آلة كورديون التي تحتضنها لحنا فريدا من المتعة والدهشة ، بينما الأقراط الفضية المتدلية من شحمة أذنها وكأنما هي شهاب من نور حين تنعكس عليها ألسنة النيران المشتعلة. كان العم توماس الحفار رجلا حكيما ويحظى باحترام وتقدير كل الأهالي، لم أكن أراه قط مبتهجا وسعيدا إلا في تلك اللحظة التي كان ينتهي منها من حفر قبر والانتهاء من مراسيم الدفن، سألته مرة وهو عائد للتو من المقبرة بينما التراب مازال عالقا ومتكدسا بين أصابعه وفي أسفل حذائه المثقل بالحصى والطين المبلل “تبدو سعيدا العم توماس”، فقال بثقة :” العائدون من الموت هم أعرف الناس بقيمة الحياة”…كانت الحياة تشرق فجأة في داخله بعد كل لحظة احتضار وغروب. الناس في قريتنا تكن لحفار القبور الكثير من الإجلال والامتنان هذا ما لاحظته في تعامل الناس مع العم توماس الذي كان يستقبل في غرفة ملتصقة بالمعبد جثة الموتى فيقوم بغسلها وكفنها قبل أن يودعها القبر، قال لي مرة : “الحفار يجب أن يكون أمينا في تعامله مع الجسد ويحتفظ بأسرار تلك اللحظة، الجسد الذي يخفيه الناس بكل أنواع الألبسة والقماش عن أعين العالم طيلة رحلة العمر الطويل يصير فجأة مستباحا ومكشوفا وهو بين يدي، إنهم يأتمنوني على لحوم أجسادهم قبل أن يتدثروا التراب إلى الأبد”. حين كنت ألمس منه شهية إلى الكلام والبوح أسأله بكثير من الأشواق والحنين عن “سارة الغجرية”. تغيرت فجأة أنشودة سارة المرحة وصارت تميل أكثر في غنائها إلى اللحن الشجي والحزين، كان تردد بصوتها الناعم والمثقل بالآهات موّالا أقرب إلى النواح ثم تعزف على الناي الحزين. اعتاد الناس كل مساء سماع موال سارة، وهي تحكي عن البنت التي غدر بها شيطان حل بخيمتها ذات ليلة وكان يرتدي جبة ملاك، رحل الشيطان وترك ثمرة الخطيئة تنمو وتكبر في أحشاء الفتاة التعيسة، ومن ظلم وجور أهل القبيلة أنهم لكي يتخلصوا من العار عليهم وأد الثمرة والانتقام ليس من الشيطان لكن من الضحية! . لم نكن نعلم ونحن نبكي قصة البنت الشقية اننا نبكي سارة الغجرية. مثل ما أحببت الحفر أحببت المدرسة وكان السيد كريستيان الطيب لا يبخل عني بكتب أبنائه القديمة التي كان يحتفظ لي بها عند نهاية كل سنة، لم يكن يضايقني إلا نظرات الحسرة في وجه السيد كريستيان وأشفق من حاله حين كان يتلقى خبر رسوب وفشل أبنائه في المدرسة فكنت أخبره باستحياء كبير عن نتيجة تفوقي ونبوغي، فقال لي مرة : ” لا عليك، تارة البذور العطشى هي من تكسر الصخر” حين علم أني لم أفهمه جيدا استرسل قائلا:” كان فلاح يحمل بذوره داخل كيس فوق ظهر حماره متوجها إلى أرض خارج المدينة من حين لآخر كانت تسقط من الكيس بعض حبات بذوره على الطريق حتى وصل إلى أرضه التي حرثها واجتهد في سقيها والعناية بها لكن الأرض أصابها القحط ولم تثمر إلا الشوك بينما نبت على طول الطريق الصخري زرع وشجر وربيع من تلك البذور المنسية التي سقطت سهوا وفي غفلة منه. شعر العم توماس أنه لم يعد بإمكانه العمل بنفس القوة والجهد كما كان في السابق وأحس في نفسه الكثير من العياء فآثر على غير عادته البقاء في المنزل، اقتربتُ منه وهو ممدود على فراشه وطلبت منه أن يحكي لي عن حدوثتي الشجية، حكاية سارة الغجرية. عوض أن يحكي هذه المرة أمرني أن أفتح صندوقا صغيرا كان مخبأ تحت وسادته، أخذ منه ورقة وقال: ” عندما جاء بك السيد كريستيان أول مرة وبينما أنا أحملك انتبهت إلى ورقة كانت مخبأة خلف القماط الأبيض الملفوف حول جسمك الطري ” نظر إلى الورقة وتابع يقول: ” ولأن والدتك سارة الغجرية لم تكن تعرف القراءة والكتابة فلقد تركت لك رسالة على هيئة رسم” نظرت إلى الورقة وقد رُسم عليها رجل وطفل وكلاهما يحمل شامة كبيرة في الجهة اليمنى من الصدر. أعتقدُ أن العم توماس شعر أني لم أفهم جيدا الرسالة، فطلب مني أن أخلع قميصي وصار بسبابته يصنع دائرة حول شامة بلون بني نبتت فوقها بعض الشعيرات في جهة اليمنى من صدري وقال ” والدك يحمل نفس الوحم وفي نفس المكان”. تمنيت لو حكى لي العم توماس عن سارة الغجرية وليس عن والدي الذي أشبهه في حمل نفس الوشم على الصدر وتمنيت أكثر لو فهم الناس أن آصرة الأبوة لم تكن قط مرهونة بشبه أو وشم … صرت أنا الحفار بعد أن قعد العم توماس ولم يعد يقوى على العمل وبينما كنت أتهيأ لصعود الجبل حين راجت أخبار عن قدوم قافلة جديدة من الغجر سمعت البراح ينادي في الناس عن موت حاكم القرية فقصدت المعبد، لم يكن في الغرفة إلا أنا والجثة، صار قلبي يهتز بشكل لم أكن قد عهدته من قبل وتهتز معه شامتي التي على الصدر، بينما نفس الشامة التي على الجثة كانت جامدة لا تتحرك، لن أخون هذه اللحظة ولن أبوح بسر الجسد وسأحفر عميقا عميقا في الأرض لكي أدفن هذا اللغز وإلى الأبد. قصدت جريا الجبل استوقفني عزف بديع على آلة كورديون لفتاة حسناء من الغجر تركت آلتها الموسيقية وخاطبتني قائلة ” أراهن على أنك أيها الفتى سعيدا اليوم”، قلت مبتسما ” العائدون من الموت هم أعرف الناس بقيمة الحياة”… صارت تنظر إلي أكثر وتتأملني جيدا وقالت مستفهمة “أليس غريبا أن يكون شعرك أسود وبشرتك عسلية وعيونك بلون البحر؟ ” ..