السنة الموالية انتقلت لمستوى المتوسط الأول ، و كانت سنة ذهبية لي مع صانع الأجيال الاستاذ الجليل الشلي اطال الله في عمره.كان صارما، جديا، نشيطا و انيقا و كان يميزه شعره و شاربه الكثيفان الاسودان اللذان اثارا انتباهي منذ الوهلة الاولى لانهما من سمات والدي رحمه الله و ربما كانا هما السبب التلقائي لتعلقي به ، فحصل بيننا تفاعل كيميائي جميل ما زلت اشعر بتاثيره الى اليوم خاصة و انني كنت ممن ينطبق عليهن المثل العربي القاءل ” كل فتاة بابيها معجبة.” كان معلمي يتمتع بكفاءة عالية، و بكريزما ملحوظة ، الشيء الذي جعلني اتالق معه بشكل غير مسبوق. وتلك السنة لم يسلم من عقوباته سواي لانني كنت مجدة ، مجتهدة و انصاع للأوامر و القواعد، و طبعا عقوباته كانت دائما لأسباب تعليمية او تربوية و كانت نتائجها إيجابية. علمنا جازاه الله خيرا، كل القواعد اللغوية و السلوكية التي نحتاجها في حياتنا و أعترف انها أثمرت من الغلال اجودها. و شاءت الاقدار ان أدرس ابنته ، حين التحقت لاحقا بسلك التعليم؛ و لم اكن أعلم بذلك الى ان زارني يوما في الفصل، ووالله ما تمالكت نفسي من الفرحة، و استرجعت في حضرته كل مشاعر الطفولة ببراءتها، صفاءها و ضعفها، لحظتها تاهت مني الكلمات و حلت محلها صور جميلة و مواقف رائعة من زمن مفتقد تراءت لي كحلم ينفلت من قبضة الواقع و اليقظة. و اتمنى ان اكون قد وفيت و لو النزر القليل من الدين الذي له علي. هذه السنة كانت اخر فرصة لي للعب و اللهو في الساحة اثناء فترات الإستراحة، ضحكاتنا كانت بريئة، و ألعابنا كانت مسلية و تربوية تلعب دورا في التوجيه و في تكوين شخصية متوازنة و منفتحة على العالم و على الاخر و ليس كالعاب الهاتف او الفيديو التي هيمنت اليوم و التي تعمل على تنمية و تغويل النزعة الفردبة و الانغلاق على الذات. كانت بعض العابنا تقتصر على الإناث و اخرى مشتركة مع الذكور لكن مع احترام المسافة الضرورية اللازمة للحفاظ على صمام الأمان في علاقتهم ببعض. و اكثر لعبة كانت تستهويني هي لعبة الأرانب و الثعالب، فنصطف صفين متقابلين، صفا للإناث و اخر للذكور، و كل صف عبارة عن سلسلة نمسك فيها ببعضنا البعض، الاناث هم الارانب و الذكور هم الثعالب و يبدأ اللعب و الانشاد في وقت واحد: الارانب: نحن الارانب، نحن الأرانب نلهو و نلعب في كل جانب….. الثعالب: نحن الثعالب، نحن الثعالب…. و قانون اللعبة ان تحاول الثعالب اصطياد اي أرنب شارد عن المجموعة.ألا تلاحظون معي انها لعبة محملة بروح المجموعة، و برسائل التنبيه و التوجيه لتعلم الحذر و الحيطة ، و في نفس الوقت هناك حوار بلغة عربية فصيحة وبكلمات نظيفة و منتقاة، لكل هذا لا يسعني اليوم إلا أن أردد:” يا حسرة على زمن ولى”. مما علق في ذاكرتي عن هذه السنة هو موقف تلميذة أتتنا يوما الفصل من فوج آخر تشكو لمعلمنا الصارم زميلا لي اعتدى عليها بالضرب خلال فترة الاستراحة، دعاه الاستاذ الشلي و ما ادراك ما الاستاذ الشلي للوقوف أمام السبورة من أجل مباشرة إجراءات العقاب و طبعا امام انظار كل التلاميذ ليكون عبرة لمن يعتبر و لمن لا يعتبر. ساد صمت رهيب و كأن على رؤوسنا الطير، و في اللحظة الاخيرة، تدخلت التلميذة و طلبت من المعلم ان يعفو عنه لأنها سامحته، و حصل الأمر فعاد التلميذ لمكانه سالما و غادرت هي. انبهرت بهذا الموقف و استهواني لدرجة بت معها اتصيد فرصة ان يمسني احدهم لاعيش نفس الدور، و ما ان فعلها حتى استأذنت معلمي أثناء الحصة في الذهاب إلى الفوج الآخر لاسكو تلميذا لمعلمه، و كان ما حلمت به آنذاك و أحسست لحظة العفو بزهو و بفرح لا حدود لهما. في غياب الوسائل الإلكترونية و الصور النمطية المتداولة اليوم كنا حينها نتعلم نن بعضنا البعض قيما و سلوكيات حتى و لو تخلل ذلك بعض التحايل و الشيطنة، كما لو كنا نمارس تلقائيا تجربة التثقيف و التعلم بالنظير التي تدعو اليها النظريات التربوية الحديثة. و ما يذكرني أيضا بهذه السنة هو الاحتفال بالمناسبات الرسمية و الاستعداد لها، و شاءت ارادة المعلمين ان يتم إختياري للمشاركة بنشيد باللغة الفرنسية مع رقصة استعراضية بسيطة، فكنا كمجموعة نقف نصف دائرة و ننشد، و في ختام النشيد نتبادل المواقع و نحن نرقص انا و التلميذة التي كانت قبالتي اذ كنا نمثل طرفي نصف الدائرة . قضينا زمنا لا يستهان به في التمرينات، و كان يوم العرض بسينما اسطوريا ، فارتدينا أجمل ملابسنا و اقتادنا معلمونا الى السينما حيث دمنا عروضنا امام جمهور من أولياء الأمور و رجال السلطة و هيأة التدريس، و يومها و انا اقدم العرض مع المجموعة كدت اقع على خشبة المسرح لا قدمي علقت بالخيوط الكهربائية الكثيرة و المتشابكة للميكروفون. رغم القلق و الخجل و الارتباك الذي عشته حينها الا انها كانت تجربة ممتعة و مثيرة و أجمل ما كان فيها هو التواجد في الكواليس و الاطلاع عن كثب على الفلاشات و المواقف و النكت المتبادلة بين المعلمين خاصة المرحين منهم مثل المرحوم الجليل السي المهدي الريسوني و الاستاذ الجليل السي عبد السلام البوطي اطال الله في عمره. عندما اتذكر الاحتفالات الرسمية أو الدورية التي كنا نحييها نهاية كل دورة مع توزيع النتائج تحضرني صورة علبة بسكويت هنريس الخضراء المزينة بالأحمر و كأنها صنعت خصيصا لهذه الاحتفالات بلوني علمنا المغربي الحبيب، تصحبها قارورة المشروب الغازي فانتا. و لا زلت الى يومنا هذا كلما وقع عليها بصري في محل تجاري اشتريها و كأنني استعير بها لحظات من الماضي أعيشها في الحاضر و اقتنص معها مشاعر يعجز عن وصفها لساني، هي مزيج من الفرح و الحسرة و الخوف مما قد يحمله القادم من الأيام. و كان يحدث شبه إجماع تقريبا بين كل التلاميذ على هذه المؤونة الطيبة دون اي مظاهر التميز او التفاوتات الطبقية او الاستثناءات، توحدنا البساطة و الرضى. و يشجعنا معلمنا بجوائز أكثر بساطة مثل أقلام ملونة او قطع الطباشير او اغلفة مستعملة من تلك التي خلفها من سبقنا من التلاميذ. لكننا تلقينا كل ذلك على طبق بطعم المحبة و بنكهة الاخلاص و الوفاء.لكل هذا كلما التقيت استاذي الشلي، و غالبا ما القاه قرب مدرسة ابن خلدون يرتجف شطر من كياني يعلن انتماءه له، أوليس هو من وضع البذور الاولى لتكويني…… له مني كل الاكبار والاجلال …….معلمي….. يتبع……