ذات ليلة حاصرت النيران طفلا في التاسعة من عمره، كانت أمه الأرملة تعمل منظفة في ملهى ليلي. في البداية أيقظ الجحيم، المستعر ببقايا شمعة منسية، الطفلة الكبرى وكانت في ربيعها الثالثة عشر. هب الرجال على إيقاع استغاثتها فحطموا باب الحجرة في الطابق الرابع وأخرجوها وثلاث صبيان لم يبلغ أكبرهم السابعة بعد. لكن الطفلة ظلت تصرخ: “لازال عبد اللطيف.. أخي هناك.. أخي.. أخي”. عندئد انتبه الجيران إلى طفل في السادسة، يغطي الهلع وجهه، وكان متشبثا بالقضبان الفولاذية للنافذة، بعد أن سدت تلال اللهب كل المنافذ حوله. جن جنون الطفل طوال الليل، كان يقبل يديه متوسلا إلى الناس أن يخرجوه ويبعدوه عن النار المتقدمة نحوه، ملتهمة القدور والألحفة والستائر. كان يتبادل النظرات الزائغة مع الناس الحائرين في الزقاق. كان ولدا مطيعا، ظل حتى النهاية واثقا في الناس، ينظر في عيونهم ويستجيب لتوجيهاتهم بأن هدئ من روعك، وغير مكان وقوفك، لاتبكي فرجال الشرطة والوقاية المدنية في طريقهم إلى هنا.. وهكذا إلى أن صار فولاذ النافذة قطعة جمر حمراء، التصقت عليها جلود كفه وعظام أصابعه. ولم يجد مخرجا سوى الإنكماش على نفسه والاستسلام للنيران الضارية خلفه، كما كان عيسى ينكمش في سراديب سجن عين قرداش، خلال جلسات العلاج في حجرة العرسان. احترق الصبي عضوا عضوا، وفقد الناس صوابهم فأغمي على النساء. وحين أصبح عبد اللطيف تمثالا صغيرا من فحم، سمع الناس صوت صفارة شاحنة الإطفاء. كعادتها جاءت بعد فوات الأوان،كعادتها لا تأتي إلا بعد هلاك الضحايا، كعادتها حين عمدوا إلى استخدام الخراطيم لم يكن في الصهريج ماء.