وتسقط شمس الأصيل خجلى في غياهب الأفق الممتد … فيخفيها الشفق الدامي في صرحه الشفيف الممرد …خشيةً من لوثة الحبر الداجي … وبعد .. يشهق الشفق محتضرا … فيتوارى في مخابئ غيهبه … فتكتحل رموش السماء بمِرْود أجنحة الظلام … وتفترش الظلمة أديم الأرض متدثرة في جرابها المدلج … ثم بعد .. يأتي النغم .. في مواكب زاخرة بأصوات الطبيعة.. في عشوائية الايقاعات واختلاط رناتها الملحمية انصهرت في مكنون مفاتيح اللغات لتنساب في انسياب نعيق الغربان الى عواء الذئاب .. إلى حفيف الأغصان المترنحة .. الى خشخشة الأكمام المتساقطة … إلى أزيز الرياح المتردية… الى ذبذبة الهوام المختفية … الى كل حركة عابرة ذات معنى مجهول لا تدركه إلا نواميس الطبيعة المكتنفة بألغاز الحياة بين الأرض والسماء . وانشقت ظلمة الغسق عن زرقة داكنة ، تفتقت عن إطلالة صبح شفيف..ملتمع ..بشمس ضحوك تفتحت لها أكمامُ الأغصن بخزات ندية رائقة … وبِارتواء خضل ذي نداوة … وزغردت العصافير بموسيقاها في لغة الألحان مغردة على أفنان الشجر أو على حواف السواقي الجارية.. وجنباتُ الغاب صاغية في سكون وهدوء كانما هي في صَلاة خشوعٍ وتقديرٍ لهذه السيمفونية الروحية المؤلفة من أوركسترا الطيور الشادية . وفي جانب من جوانب الغاب ارتكن كوخ يتيم وضيع في انزواء منقبض .. وقد التحفت أضلعه بألياف من الشجر تماسكت ببعضها البعض بامتزاج الطين المجفف بالعشب المشمع ، وقد توسطت كوةٌ صغيرةٌ على شكل نافذة أحدَ أضلعه لتتسنى لصاحب الكوخ الإطلالة منها الى خارجه ، وقد ارتفع سقف الكوخ بأطراف من جذوع النخيل عُقِّدَ بقوة بعضُها إلى البعض كما تُبِّتَتْ نهاية أطرافها بزوايا اركان الكوخ بأربطة متماسكة للحيلولة دون التفكك والانخلاع ، وجاء باب الكوخ على مستوى مُنْحنٍ يتطلب احديداب صاحبه عند كل ولوج وخروج . وانشق باب الكوخ عن خروج شاب بهي الطلعة قوي البنية ، واسع المنكبين ، وقد أخذ نفسا عميقاً بملء رئتيه من هواء الصباح ثم اقترب إلى مجرى الغذير المحاذي لكوخه وأخذ حمام الصباح ، ثم استوى على أريكة عمِلَها من جذع شجرة متنزها متأملا في هذه اللوحة الحية من رسوم الطبيعة الموشحة بفوضويةالألوان غير مقيدة بنظام دخيل بشري،إنما غازلتها ريشة السماء بتهاويل الضياء وبغمزات الألوان المطرزة بكل أشكالها وأصنافهانفذت الى أنفاس الفتى آثر أن يعيش منفرداً مقتنعاً بهذه الخلوة الهادئة دون ضجة الدنيا ،انصرف إلى هذا التواصل الانفرادي مبتعدا عن الضجيج والزحام ليرتب أفكاره وينظم عواطفه على كتف هذا الغاب النظيف النقي نقاءً بدون شوائبِ عالمِنا الذي هدمه الإنسان بالحرب والطمع والأنانية . جلس وحيدا بلا تواصل إنساني وَدَّ أن يفرغ مكنونات قلبه ، أراد أن يُعاتب دوران الليل والنهار ، لا ، إنهما نظام زمني ثابت، مفطور على خاصية الثبات منذ أزلية الخلق هُّيِّئ من الخالق لتداول الأيام والأعمار ، لا يَد لهذا الزمن في نشوب الاحداث ، لمن يعاتب ؟ هو حمل ثقيل مرهق .. فجأةً … قدم عليه قادم … كسَّر وحدته وقطع حبال أفكاره وأسبابها ، والقادم تشَمَّلَ بقوس ونبال وأدارها على كتفه ، وقصد الغذير ورشف منه حتى ارتوى ولم ينبس ببنة شفة .. ويمر الغزال مطمئنا في مملكته ويمسك الوافد قوسه ويوجه نبلته الى الغزال ويسقط صريعا مثخنا بدمائه وحمله القادم ، والفتى ساكن الغاب يشاهد هذا السيناريو الدرامي ، فالقادم هو الانسان كرَّمَه الغاب بالماء والخضرة والظليل لكن جازاه بقتل أحد رعاياه فاهتزعرش الغاب فقد دخل الإنسان إلى فطرة الطبيعة بلوثة وعرف الفتى أخيرا لمن يعاتب …. هذا هو عالم اليوم .. القوة تقتل الأمان .. هذا يثير الفزع .