لا زلت أذكر فيما أتذكر، أن يوم الجمعة كان يعد من أسعد أيامي.لأن أمي اعتادت أن تصحبني معها في هذا اليوم إلى كل زياراتها لأقاربها. ولا أدري لما كانت تختار هذا اليوم بالذات.ألأنه يوم عطلة أسبوعية مدرسية بالنسبة لي، أم لسبب لا تعلمه إلا هي. غير أني كنت أشعر بفرح غامروأنا أجلس بالقرب منها، و نحن نعتلي عربة مجرورة بحصان، التي كانت وسيلتنا المفضلة للتنقل. ويزداد ذلك الشعورجمالا و يتضاعف، حين تستقر العربة على الطريق، و يرتفع ايقاع حذاء الحصان و هو يرتطم بالاسفلت الصلد. و يحدث بداخلي اهتزازا يحملني إلى خدر جميل. و ألتفت إلى أمي لأرى مدى فرحها و ابتهاجها هي الأخرى.فترمقني بعينين تشع منهما ابتسامة مشرقة. وتعدل من لثامها الأسود الذي يخفي نصف وجهها. و بين الفين و الفين تعيد ترتيب قب جلبابها بدبابس مذهبة، وقد انخرم بفعل نسائم الرياح التي تلطم وجهينا و صدرينا . أنشغل عنها بتتبع حركات ردفي الحصان اللذين يتمايلين يمينا و شمالا، و يزداد معهما اندفاع العربة للأمام بسرعة ممتعة. أتملى متنه الطويل و رأسه الصغير، و قوائمه القوية، و أسرح بعيدا وأتخيلني فارسا يمتطي صهوته و أتقدم سربة متناسقة في مشهد فرجوي رائع للتبوريدة. لكن سرعان ما أستفيق عن نحيم يصدر من جوف هذا المخلوق الرائع فيجفلني… خواطر شتى تتجاذبني و الكارو يخترق بنا هذه المرة حومة البرييو، من مكاني فوق العربة أرى منزلنا القديم الذي يوجد قبالة فران” سي الزوين” في نهاية منحدر الدرب. فتستيقظ الكوامن بدواخلي. فأشعر أن صورا متتابعة تنتال علي كحب المزن . وأتساءل عن أي سحر تصدره الأمكنة التي نعيش فيها جزءا من طفولتنا، و يجعل كل الذكريات الثاوية في السواكن تضرب على الوتر النابض في أقاصي الأعماق.فأحسني أنني لازلت مسكونا بدرب سي الزوين، وأن الحنين اشتعل وأن لهيبه أوغل في الصدر العليل. بباب ذاك الفرن، انفطر القلب الصغير يوما،و أنا لازلت مصحبا ،عن بذرة استكانت في الأعماق،و أصابت البدن بدفئ مبهم، و نشوة دافقة. و في منحدر ذلك الدرب الضيق انغرس سهم العشق في فؤاد ما يزال يتلمس النبض و الخفقان. كنا في الأيام الأخيرة من شهر رمضان، والكل يتهيأ لاستقبال عيد الفطر. و كان فران سي الزوين كغيره من الافرنة ،قد تحول في هذه الأيام من مجرد فضاء لطهي الخبز المصنوع في البيوت إلى معمل صغير لانضاج الحلويات التي تسهر الأمهات على إعدادها فرحا بقدوم العيد. و رغم حر اللهيب الذي يصل من بيت نار الفرن، و الدخان الحار المتصاعد من قطع الخبز المصفوفة على الرفوف و الأرض ،فإني كنت أجد متعة متناهية للوقوف أمام باب الفران. كان عمي “عبسام” الفرارني الذي لفح الصهد وجهه و استحال لونه من بياض صاف إلى احمرار قرمزي يشبه عرف ديك بلدي. يجتذبني بلكنته الجبلية الضاربة في عمق مداشر القلة و أهل سريف، و طريقته في استمالة المرتفقين بالسؤال عن أحوالهم وأحوال أبنائهم. و كنت لا أجد حرجا في مساعدته، و هو يطلب مني ترتيب أطباق الخبز على الرفوف الخشبية، و قد تكاثرت من حوله . أو تقريب الحطب منه، و قد أحس من مسام وجهه أن حرارة الفرن بدأت بأفول. و أنا مأخوذ أراقب عمي عبسام و هو داخل حفرة صغيرة يدس قطع الحطب في بيت النار، و يدخل الطراح مملوء بأرغفة الخبز و يخرجه بخفة زائدة. انتشلني صوت ملائكي رخيم صادر بالتأكيد عن غادة حسناء و هو يطلب مني أن آخذ منه ” صينية من معدن” مليئة بقطع الحلوى. دون أن أستدير بشكل كامل ، تملكني احساس غامض، و مادت بي الأرض لحظة ، ووقفت مذهولا. اختلست منها النظرات، و إذا بقبس من نورتسلل من لحظها الكحيل فاستحوذ على كياني، و امتد إلى كل تفاصيل جسدي. أحسستني أضطرم واللهيب المنبعث من داخلي يلتهمني من أخمص قدماي إلى قلة رأسي. مددت يدين مرتعشتين للصينية المعدنية، و قد انقطع مني الصوت، فرمقتني بنظرة ساحرة تشي بأنها تحرضني على بدء الحديث. غير أني تفرست وجهها دون أن أنبس بكلمة. شهور عديدة و أنا أمشي وراءها كالمهبول دون كلل أو ملل.أراقبها من بعيد.أقف كل صباح عند عطفة فران سي الزوين، و عندما تعن لي و هي قادمة من الساحة الوحيدة لحومة البرييو ملفوفة بزميلاتها، و كأنها تحتمي بهن. أسرحها عن بعد إلى أن تصل إلى مدرسة البنات بالمحلة وأدلف أنا مدرسة المنزه. وأظل أترقب الجرس بلهفة، و حين يتأخرأنشغل بنتف تويجات زهرة أحضرتها معي عنوة: تحبني، لا تحبني، تحبني، لا تحبني.و في كل مرة أنتهي بتحبني.و في كل مرة أشعربدفء غريب يغمرني لكن بحزن غامض ينزلق من مقدمة رأسي و يغشى كل جسدي .و تستمر مطاردتي، و تستمر معها معاناتي، ولا أعرف لما كانت تصر على الاختباء وراء زميلاتها. و لا أعرف لماذا لم أجرؤ يوما على أن أكلمها. و هي التي لم تستطع مقاومة رغبة زيارة فرن سي الزوين بمناسبة أو بدون مناسبة. كثيرا ما يسألونني ماذا يستهويك فيها؟ وأكتفي بالقول: أشهد لها وحدها بسبق إلقاء بذرة ،وإن لم تتح لها أن تنمو لأنها غرست في غير زمنها، فإنها أشاعت نشوة غشت بها فؤادا يتلمس النبض و الخفقان. في عز الاسترخاء اللذيذ،و الاسترجاع المنفلت من الذاكرة المنسية، أحسست بأن يدا تجذبني بلطف زائد، و بصوت أمي من وراء اللثام الأسود يدعوني إلى النزول من العربة . و قد التف من حولها أولاد عمي مرحبين. فيما كانت أمي تحضن امرأة عمي، جذبني محمد ولد عمي وأسرلي بأن أخته فاطمة ضربها جن البارحة وهي تلعب بالقرب من مقبرة سيدي مخلوف بالمرينة، و لما أحضرلها عمي فقيها جهبذا، و هو في غمرة ترتيل آيات من القرآن، جعله الجن يضرط ضرطة منكرة كصرير التخت. وضحكت فاطمة عاليا لكن بغير صوتها، وطفقت تقرأ هي الأخرى نفس الآيات من القرآن ، و تحذر الفقيه من أن يخطئ. و بين الفين و الفين تقول بنبرة استهزاء و تحد: زيد ألفقيه زيد و لا نعلقك… وقلت لمحمد ابن عمي و الخوف قد اعتراني ، وكيف لفاطمة أن تقرأ القرآن وهي غير حافظة له !!! . انتفض محمد في وجهي وبدأ يحلف بكل مقدس على صحة ما يقول.و هو يدعوني لعيادة فاطمة المنزوية بركن قصي من غرفة الضيوف لأرى ذلك بأم العين. * البرييو حومة بمدينة القصر الكبير.