لم نعد نصادف في الآونة الأخيرة بأحياء مدينة وجدة ربة بيت أو طفلا يحمل فوق رأسه «صينية» خبز متوجها بها إلى الفرن التقليدي إلا نادرا، إذ تغير المشهد في السنوات الأخيرة بأحياء عاصمة الشرق وأضحى البحث عن فرن تقليدي أمرا متعبا لأغلب المواطنين الذين ألفوا طهي الخبز على الطريقة التقليدية. فالأفران التي كانت تنتشر في كل حي وزقاق في بعض الأحياء كحي زنكوط وبوعرفة ولازاري... أصبحت تعد على رؤوس أصابع اليد الواحدة وصارت تقاوم من أجل البقاء، فحالها لا يسر وواقعها يفصح عن أنها ماضية نحو الاندثار، نتيجة لتغير ظروف عيش الناس، ونظرا للتحولات التي أصبح يعرفها المجتمع المغربي، ويأتي في مقدمتها انتشار الفرن المنزلي الذي صار في متناول أسر كثيرة إلى جانب أسباب أخرى. جريدة «الاتحاد الاشتراكي» قامت بجولة استطلاعية ببعض أحياء وجدة وأعدت الروبورتاج التالي: «فران الحومة».. في طريقه إلى الاندثار ساعات طوال ونحن ننتقل من حي لآخر علنا نعثر على فرن تقليدي نسأل صاحبه عن أوضاع هذه المهنة الضاربة جذورها في القدم، ونحن نتجول بين أزقة وجدة وشوارعها رمقنا من بعيد دخانا أسود يتصاعد في السماء، سألنا ثلة من الشباب الذين كانوا يقفون قرب إحدى المقاهي عن مصدر الدخان، فأجابوا بأن ثمة فرنا تقليديا، ومباشرة بعد علمنا بمكان تواجده بحي «بوعرفة» توجهنا إليه، ونحن نهم بالدخول إلى الفرن استقبلنا محمد (56 سنة، خباز) الذي لفح حر اللهيب المتصاعد من الفرن ملامح وجهه بمحله الذي يشتغل فيه ما يزيد عن عشرين سنة، وتكلم بنبرة غلب عليها الشجون عندما سألناه عن سبب قلة الأفران التقليدية، فأجاب بجمل متقطعة فهمنا منها أن منافسة الأفران والمخابز العصرية، جعلت الكثير من الأفران التقليدية تغلق أبوابها خصوصا وأن أغلب الأسر أضحت تفضل شراء الخبز الجاهز المتوفر بمختلف الأحجام والأشكال. عبر نافذة صغيرة يتفقد محمد «رغائف الخبز» دون أن يفسد شكلها، يقلب «الرغائف» في الحفرة التي يقارب طولها نصف متر حتى يحمر لونها وتستوي بالشكل المطلوب، أردف قائلا وهو يرتب الخبز: «رغم الحرارة ديال لفران لي كنتعرض ليها يوميا والدخان ديال لحطب والرماد إلا أنني كنتمسك بهاد المهنة ومنها كنكسب لقمة العيش ديالي»، مستطردا «يؤسفني أن يعرض الناس عن الأفران التقليدية ويتوجهوا للمخابز العصرية». وبالقرب من فرن محمد تنتشر المخابز العصرية بشكل كبير، وغير بعيد عن حي بوعرفة نجد حي القدس المحاذي لجامعة محمد الأول هو الآخر تنتشر فيه المخابز وتعرض كل أنواع الخبز والحلويات والفطائر، والمثير في الأمر أنها تشهد اقبالا منقطع النظير في الأيام العادية كما المناسبات ، أما الأفران التقليدية فلن تجدها بهذا الحي ليظل فرن «محمد» الكائن بحي بوعرفة يتيما وسط انتشار المخابز العصرية. توجهنا بعد ذلك إلى حي لازاري الذي يشهد أكبر تجمع سكاني بمدينة وجدة، حيث قصدنا الحاج العربي (اسم مستعار) «فرارني» تجاوز 60 سنة، يملك فرنا تقليديا قديما مختصا في طهي «كاران» وهي أكلة شعبية تشتهر بها مدينة وجدة تتكون من الحمص المطحون والتوابل. تسري حركة دؤوبة في الزقاق المؤدي إلى هذا الفرن، يحمل الشباب كما الرجال أطباق «كاران» في «صينية» طويلة فوق رؤوسهم أو على عربات لإيصالها إلى الفرن. يشتعل لهيب النار وتزداد حمرته وتبدأ طقطقة الحطب، لنسأل الحاج العربي عن أسباب عدم إقبال المواطنين على الفرن التقليدي ليجيب: «إن انتشار المخابز العصرية وبائعي الخبز الجاهز ساهم بدوره في هذا التراجع الذي تعرفه مهنتنا، إلى جانب خروج المرأة للعمل، مما يعني عدم إعداد الخبز المنزلي وبالتالي عدم طهيه في الفرن بسبب ضيق الوقت المتيسر لها». إلى جانب الحاج العربي كان يقف أحمد صديقه وزبونه منذ عشرات السنين وهو بائع «كاران» يأتي بالحمص لطهيه في فرن الحاج العربي، يقول: «منذ سنوات خلت كنت أجيء عند العربي لنحتسي كوب شاي منعنع ولكي نتبادل أطراف الحديث، كان الفرن آنذاك يكتظ بالزبائن أما اليوم فكما تشاهدون فهم أقلة من يتوافدون عليه، بالرغم من أن هذا الأخير عرف بنظافته وطهيه لكاران بطريقة حرفية». من حي لازاري إلى زنقة أولاد الغازي بالمدينة القديمة بوجدة، حيث يتواجد أحد الأفرنة التقليدية التي مازالت تصالح الزمان كي لا تندثر. حفيظ (اسم مستعار) خباز في 46 من عمره، يحكي ل»الاتحاد الاشتراكي» سبب تراجع الإقبال على الفرن الشعبي ويقول بنبرة فيها تهكم وحسرة في الوقت نفسه: «إن الفرن كان يعرف إقبالا كبيرا ، وكانت مداخيله معقولة بينما لا يتردد عليه الآن سوى قلة معدودة من الزبائن» متابعا: «بقاو غير نسا كبارات من الجيل لقديم وحدهوم لي مزال باقيين وفيات لهاد العادة لي كبروا عليها». وعن إقبال الوجديين على خبز المحلات العصرية سألنا خديجة الموظفة التي تقطن في حي القدس ، فقالت: «إن الخبز المطهو على نار الحطب لا مثيل له، ولا يضاهيه الخبز المعد بطريقة عصرية، إلا أن ضغوط الحياة وقلة الوقت تفرض على ربات البيوت اقتناء الخبز الجاهز». في المقابل تقول سمية ربة منزل التقيناها أمام عربة لبيع الخبز داخل سوق باب سيدي عبد الوهاب، وهي تقول: «أفضل أن أعد الخبز بنفسي وحمله إلى الفرن الشعبي لأن مذاقه ألذ، لكن بيتي بعيد عن الفرن، كما أنني أملك فرنا منزليا»، مضيفة «ما عادت المرأة اليوم مستعدة لبذل جهد في العجن وأخذ الخبز في الفرن، ما يهمها قبل أي شيء جمال يديها وأظافرها»، هكذا تفسر سمية ببساطة أسباب تراجع الإقبال على الفرن الشعبي. «الخباز» مهنة على شفير الانقراض ومستخدمون نحو المجهول غير بعيد عن سوق باب سيدي عبد الوهاب وجهتنا هذه المرة زنقة رأس عصفور حيث يتواجد أحد الأفران التقليدية، هنا وجدنا سعيد، خباز في 43 من العمر، يحكي ل»الإتحاد الاشتراكي» معاناته اليومية مع قطع الحطب وحر اللهيب المتصاعد منها وسواد الأدخنة وبقايا الرماد، ويقول: «كل سنوات ديال لخدمة اللي قضيتها بين هاد لحيطان لعامرين بالدخان وهاد رماد لي كتشوفوه عما ليا عينيا غادي يمشي باطل والسبب هو قلة الإقبال على لفران». ويضيف قائلا: «دابا إلى سديت باب لفران معندي فين نمشي كبرنا على أننا نتعلمو شي صنعة أو نخدمو شي خدمة أخرى حيت مين كانت عندي 15 سنة، وأنا كنخدم فهاد لحرفة، ومنها كنكسب قوت عيشي». بجانب سعيد يقف مصطفى وهو أيضا «خباز»، لا تفارقه كؤوس الشاي المنعنع الذي يحتسيه رفقة سعيد وصحن زيت الزيتون مع الخبز الذي تنبعث منه رائحة شهية، ينبه أحد العاملين معه في الفرن إلى ترتيب رغائف الخبز على الرف الخشبي، ويقول: «شوف حالتنا مين حلينا عنينا وحنا نخدمو فهاد لحرفة، معندنا فين نمشيو، بها تزوجنا وبها كبرنا وليداتنا وقريناهوم وبها كنصرفو على العائلة، ليوم لفران شعبي مبقى حتى واحد كيجي ليه، كل واحد تلقى عندو فران ديالو داخل دار، إما يطيب فيه لخبز، وإما يشوي فيه جميع المشويات». الثانية عشر ظهرا شارع الشهداء بحي زنكوط، في إحدى الأزقة الضيقة يوجد أحد الأفرنة التقليدية، سمير (اسم مستعار) 49 سنة خباز، يقول: «مهنة الخباز هي اليوم في طي النسيان، قد تسأل أطفال الجيل الصاعد، ما معنى فران الحومة؟ فتجدهم لا يعرفون عنه شيئا، في حين لاتزال في ذاكرة كل واحد منا صورة وذكريات عن علاقته ب «فران الحومة»، للأسف هذه الحرفة بدأت تنسى بفعل انتشار أفران الغاز والكهرباء بالبيوت، والذي أدى بكثير من الأفران التقليدية إلى الإفلاس وإغلاق أبوابها، وبالتالي انقراض مهنة الفرارني». ويقول أحد العاملين بالفرن مع سمير الذي قضى في هذه المهنة أزيد من 20 سنة، «يوما ما سأجد نفسي في الشارع أبيع الديطاي». إنها حرب من أجل البقاء بعدما بدأ الفرن الشعبي يفقد الإقبال عليه من قبل العديد من الأسر الوجدية، وبعد الغزو الكبير للمخبزات العصرية، قرر بعض مهنيي هذه الحرفة أن يسلكوا طريقا آخر من أجل الحفاظ على لقمة عيشهم، كي لا يجدوا يوما ما أنفسهم وأبناءهم في الشارع، يضيف نفس المتحدث «الفرن كنت كنعتابرو بحال دار ديالي، ومين كانت عندي 17 سنة وأنا كنخدم فهاد لحرفة، فديك لوقيتا كانت بساطة العيش وكل شي كان ساهل»، مستطردا «مازال كنتذكر المبلغ لي كنت كنتقضاه فديك لوقيتا، 30 درهم للنهار، ونهار لي تكون لخدما كنت كنتخلص حتى ل 80 درهم على حسب نهارات، كنت كنشري بيه كل شي، السكر والصابون وبطاطا ويشيط ليا الصرف، ماشي بحال دابا ولات الدنيا غالية بزاف ولخدمة قلالت». إلى جانب سمير والعامل الذي رفض ذكر اسمه، نجد حميد جالسا على كرسي مهترئ بعد أن أنهى عمله في طهي الخبز، مسندا رأسه إلى الحائط وسيجارته لا تفارق فمه مع كوب شاي، ربما كان يفكر في حل لتغيير وضعيته إلى أحسن وربما كان يستعيد أولى ذكريات نزوحه من إحدى قرى فكيك، بعد أن أجبر على المهنة لأنها الوحيدة التي تمكنه من إيجاد مأوى ولو بين الرماد، ظن في البداية أنه سيجد حياة سهلة في المدينة، لكنها كلفته ضياع سنوات من الدراسة مع احتمال خروجه للشارع في أي لحظة قد يقرر صاحب المحل الإغلاق نظرا لضعف المدخول اليوم ، حسب ما أكده ل»الاتحاد الاشتراكي». إنهم ضحايا الأفران، هربوا من قسوة ظروف العيش أو زوجة الأب في سن صغيرة إلى نار الفرن، لعله يكون أرحم، حميد هو الآن في سن السابعة والعشرين، أحد ضحايا الفرن الشعبي. ورغم كل هذه المعاناة وما يهدد هؤلاء المستخدمين ومالكي الأفران التقليدية، يظل صاحب الفرن أو الخباز أو الفرارني كلها أسماء لمهنة واحدة، في الثقافة الشعبية المغربية إحدى الشخصيات الأساسية التي تؤثث فضاء الحي، إذ لا يكتفي بأداء وظيفته اليومية في «طهي الخبز» بل يتجاوزها ليصير مستودع أسرار الحي والعارف بخباياه، فمن يود أن يكتري منزلا يقصده للسؤال، ومن يعتزم خطبة إحدى بنات الحي يلجأ إليه طلبا للمشورة والنصح، ومن يريد خبزا بلون تشتهيه العين قبل المعدة فما عليه إلا القدوم إليه، لكن مظاهر التمدن السريعة التي أحدثت المخابز العصرية والأفران المنزلية، جعلت الناس يستغنون عن خدمات الفرن الشعبي، الذي لايزال يقاوم حتى لا يخفت لهيب ناره. صحافي متدرب بمكتب وجدة