لم يكن مجرد انتقال من حي إلى آخر… بل كان انتقالا من “مجرة” إلى أخرى… تركنا كل عائلتنا و أصدقائنا و جيراننا و دفء حي فاطمة الأندلسية بباب الواد.. و انتقلنا إلى حي ناشئ مهجور…. حدث ذلك في نهاية سبعينيات القرن الماضي… لم ينتظر والدي حتى اكتمال بناء المنزل، فكان علينا “العيش” مع البنائين حتى صاروا جزء من العائلة، كانت “المرينة” حينها أرضا منخفظة كبيرة محاطة بأحياء قديمة عديدة، و كان علينا القفز بين البرك العديدة، وملاعبة الشراغيف في المياه الراكدة شتاء، و اللعب فوق الأرض المشققة المغبرة صيفا. كان يروق لي كثيرا الوقوف حول “الحلقات” العديدة التي تنتصب وسط الساحة، أكبرها لشخص يحكي قصص ألف ليلة وليلة، و الأزلية وحكايات عنتر، بينما يجلس “بريڭيدم” وسط حلقة أخرى يلاعب عقربا و يعد الجمهور باخراج الأفاعي من الصناديق القديمة، لكن هذا لايحدث أبدا، و يستمر الوعد وإخلافه إلى ما لا نهاية!!! في حلقة ثالثة يجلس صحراوي يضع أمامه أشياء عديدة، بيضة نعام و عظام حيوانات و أعشابا و حجارة، يدعي معالجة كافة الأمراض إلا المرض الذي يتحلقه من أجله أغلب المتحلقين، يهمسون في أذنه فيناولهم أكياسا معدة سلفا، و بين الحلقات ينشط نشالون و نصابون يأخدون للسذج مالهم بدم بارد.. في فترات معينة من السنة كان ينزل “السيركو” (قرية ألعاب) بطرف الحي، كنا نشاهد “الأبطال” وهم يقدمون عروضهم المبهرة ليلا، بينما يتحولون صباحا إلى أناس عاديين مسحوقين يخرجون من علب خشبية يتخذونها مسكنا!! فالفتاة صاحبة “الرأس المقطع” كانت تظهر وقد “التحم” رأسها بجسدها، و الدراج الذي يتسلق حائط الموت بدراجته النارية كان يداعب طفله صباحا مع لمسة حزن لا تخطئها العين، أما الشاب الذي يلعب دور فتاة فلم يكن يجد حرجا في التجول في الحي، و سلاحه سلاطة لسان منقطعة النظير!! بدأ الحي يكبر تدريجيا… بنيت منازل عديدة حول منزلنا، رحل جيراننا القدامى و حل آخرون مكانهم… و فتحت شوارع كبيرة وبني مركز التكوين المهني، و القباضة و مركز البريد، و أنشئت حديقة كبيرة صارت اليوم أجمل حدائق المدينة، و ضاق الخناق على الحلقة فرحل الحكواتي و رحل بريڭيدم وثعابينه التي لم نرها يوما.. كانت الأيام تمر بالحي رتيبة، باستثناء بعض الأحداث الفارقة، كاليوم الذي وجد فيه خضار شاب ميتا تحت “تحت” براكته المنهارة، أو يوم وجدت أسلحة قديمة في البئر الذي كان يتوسط الحي.. في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، وبسبب بناء أحياء عديدة حول المرينة، بدأ “زمن الفيضانات”، فكنا نستيقظ صباحا، و نجد الحي وقد تحول بعد ليلة ممطرة إلى بركة كبيرة، فكنا نذهب إلى مدارسنا في العربات المجرورة أو عبر التضحية بالأحذية والسراويل، و العجيب أننا كنا نجد كثيرا من سكان الضفة الأخرى واقفين بالممر السككي “يتفرجون” علينا و يسفهون البناء في حي يكفي اسمه لتعرف أنه حي مائي غير صالح للسكن، استمرت الحالة على ما هي عليه لسنوات، فبنينا “متاريس” في أبواب المنازل والمحلات، وباع البعض منازله بثمن بخس و هرب بجلده… و اليوم لا زالت المرينة قلبا من قلوب المدينة، حي يسكنك قبل أن تسكنه، لا يوجد حي يمكن أن يمنحك المتعة التي يمنحك إياها السكن في المرينة، فوالدي كان يجلس قرب نافذته و كأنه يطل على العالم، ينادي أصدقاءه القدامى، يشتري أضحية العيد دون حتى أن يلمسها، و يصطاد “بلاريات الباكور و الهندي”… في المرينة قد تصادف تحفا يبيعها تجار جاهلون بقيمتها، و قد تتعرض للنصب من طرف تجار عارفين بجهلك… المرينة حي من الأحياء الجديدة، صحيح أنها لا يمتلك شرعية و تاريخ الأحياء القديمة… لكنه يحفر عميقا في وجدان عدد كبير من سكانه والعاملين فيه. المرينة ليست مجرد حي، إنها عالم جميل و غرائبي، إنها ببساطة:- المرينة العظمى!