ما كان يدري أبداً أنها لن تفارقه ، وما كان يدري أن قامتها بوسامتها المتموجة في كل أشكال الدلال والجمال ستبقى طيفاً زائراً محبوبا لن تُغَيِّبه غشاوةُ عينيه الحالكة ، ولن تبتلعه أبعاد الظلمة الملتفة في محيط حركاته وسكناته ، وما كان يدري أن هذا الطيف أصبح إدماناً لذيذاً لإنعاش روحه العاشقة المتعطشة ، وما كان يدري أن غياب هذا الطيف سيقوده إلى مقصلة حادة تبتر سنابك هذه الروح الظمآنة وتفصل عنها ماء الحياة فتسقط الروح متهاوية مشلولة كخيوط كتان ممتدة متراخية في محيط قيثارة كَتُوم صماء . كانت روحه تستأنس بهذا الزائر الودود وينعشها بتهاويل نورانية متراقصة …مطرزة بألوان تزهو وتتعانق وتتموج في رقصات لبقة مكنونة بين براعم الزهور الندية … تكسر عمق الظلام المجثت على نفسه العليلة … فيبتسم بملء كُلِّه… فتتمدد أسارير وجهه رخاءً.. كما تتمدد السماء ضاحكة في وهج النهار الملتمع برذاذ النور … وينساب هو رفيفاً في أحلامه الوردية …كما تنساب النجوم مختالة بغمزاتها الفضية في ملكوت السواد على محفة شفاه الليل … وفجأة ينقبض صدره انقباضاً … ويثقل على تلك النفس العليلة وِزْرٌ مُضْن ٍلا يُحْتَمل ، كأنما هذا الوزر أو ذاك الانقباض صعْق مُرْجِف حَط َّعليه من فعل تلك الرهبة المعتادة توحي له بأفول الطيف ورحيله وهي الرهبة التي تَعُوده من حين لآخر كوافد ثقيل سمج أو كغصة مثقلة على النفس بلُجَّة من الكوابيس المضنية .. أو بكومة من اللغطات المبهمة .. وهو ما يرهق صاحبنا من أمره عسرا … لكن ، سرعان ما يعود بعد الصمود من هذا الذهول المشتت في هذا التيه المنبوذ .. ومن هذا الدوار المحبط .. ومن هذا التفجع الملتهب ، فيتشبث من جديد في إصرار بخيال هذا الطيف الأليف فتنبثق بينهما براعم المناجاة بعذوبتها ورقتها في لغة الصمت ، فتنساب معها ذكرياتهما الجميلة في أغوار النفس بأعطار نرجسية متموجة في همسات رقيقة يرف منها الشوق والحنين بالقوة والشغف تتدرج حبيسة بين القلب والشفاه بخلجات نفوس زكية … إنه وحيد مع هذا الطيف الزائر في ثنائية يتيمة مذهلة … طيف مرهف .. من راقدة انسحبت من دنيا الحياة تنسجه حكايةً في روعة الوفاء بلغة العشق من تحت التراب …