محمد واسماعيل نادلا مقهى يبذلان قصارى جهدهما من أجل تلبية متطلبات الزبائن وتأدية عملهما كما ينبغي.. يتحمل الرجلان أعباء العمل بجلد ولا يلقيان بالا لنظرة الناس فكل ما يهمهما هو استمرارهما في العمل الذي به يفتحان بيتهما ومنه يطعمان أبناءهما لكن أكثر ما يحز في نفسيهما هو أن يريا نظرة الخجل في عيني الزوجة والأبناء بسبب عملهما المتواضع. غادر اسماعيل قريته بضواحي مدينة خريبكة متجها صوب مدينة الدارالبيضاء بحثا عن عمل يغير حياته، ويستطيع بمدخوله فتح بيت وتكوين أسرة كغيره من شباب قريته الذين وجدوا في المدينة ما لم يجدوه في قراهم. بعد انتقال اسماعيل إلى المدينة فضل الاستقرار رفقة بعض شباب القرية، الذين جمعته بهم نفس رحلة البحث عن عمل بالدارالبيضاء والحلم بالمستقبل والاستقرار والحصول على الزوجة وإنجاب الأبناء. زوجته تخجل من عمله حاول اسماعيل أن يشتغل في إحدى الشركات رفقة أحد أصدقائه إلا أنه فشل في ذلك، بسبب صعوبة تأقلمه مع جو الشركة لذلك بدأ رحلة البحث عن عمل في المحلات التجارية، التي تنقل بين عدد منها إلى أن انتهى به المطاف كنادل بإحدى المقاهي. ارتاح اسماعيل جزئيا لعمله في المقهى. لم يكن يدخر جهدا في خدمة الزبناء الذين كانوا يقدرون خدماته، ويجزلون له العطاء، لكنه لم يكن مع ذلك يسلم من نظرات الامتهان والتحقير التي كان يوجهها له بعضهم. كان كل همه العمل والكد لتوفير المال فكان يبيع أيضا السجائر للزبائن بالتقسيط، مما يساعده على توفير مبلغ يومي قد يزيد عن المائة درهم، دون حساب راتبه الشهري. فضل اسماعيل السكن رفقة أصدقائه في غرفة يتقاسمون ثمن كرائها، كما يتقاسمون مصاريف المعيشة من أكل وشرب. كانت هذه طريقته لتوفير مبالغ مالية يقتطعها قسرا من جوعه وراحته واستقلاليته ليبعث لعائلته بمسقط رأسه والتي تنتظر مساعدته لها، بما يمكن أن يغطي ولو جزءا بسيطا من مصاريفها. رغم ضيق ذات اليد قرر اسماعيل الزواج وتكوين أسرة. بحث عن « ابنة الحلال» وهو يحلم بالاستقرار. تزوج اسماعيل واستقر رفقة زوجته في بيت عائلتها، مقابل مبلغ بسيط يؤديهم لهم، لكن مسؤولية تحمل عبء زوجة وضعته أمام الحقيقة المرة التي لم يكن ينتبه إليها، فالراتب الشهري وكل ما يحصل عليه لا يكفيه لتغطية مستلزمات بيته. استمرت حياة اسماعيل على هذه الحال، لكن ما زاد من تأزيمها هو ولادة ابنه الأول الذي ضاعف مسؤولية اسماعيل وأعباءه ولم تعد الأجرة التي يتقاضاها تكفي حتى أبسط ال، وهنا بدأت المشاكل بينه وبين زوجته التي لم تعد تتقبل هذا المستوى من العيش. كانت لا تتواني عن تقريعه وتجريحه والاستهزاء بعمله الذي تعتبره مهينا لا يلبي طموحاتها. بالرغم من مساعدة عائلة زوجة اسماعيل للزوجين الشابين، إلا أن الزوجة لم تعد تتحمل ظروف عيشها وتتحرج من ذكر عمل زوجها أمام صديقاتها أو نساء عائلتها، هذا الحرج الذي كان منذ البداية وتسبب في الكثير من الأحيان في نشوب المشاكل بينها وبين زوجها، الذي تدعوه دائما إلى تغيير عمله لأنه يسبب لها الإحراج. يعاني الزوج من عدم تقبل زوجته لعمله، وعدم قدرته على تلبية متطلباتها. لكنه لا يستطيع تغيير هذه المهنة التي لا يتقن غيرها، بالرغم من علمه أن الظروف التي يعمل بها لا تساعده على عيش حياة كريمة، لأنه يعرف أنه «خدام في النوار» بسبب غياب أي وثيقة تثبت حقه إذا ما تم طرده من طرف صاحب العمل. «إلى مخدمتش منتخلصش». يتحرك بخفة متناهية داخل فضاء المقهى، محاولا بذل ما في وسعه من أجل تلبية طلبات الزبائن دون تأخر، عيناه لا تغفلان عما يجري داخل المقهى، يهرول مسرعا نحو «الكونتوار» من أجل الاستجابة لطلبات زبنائه، ليعود وينظف الطاولات التي غادرها أصحابها بعد أن يتسلم منهم المقابل. يحاول محمد الرجل الذي شارف على الأربعين من العمر أن لا تغادر الابتسامة محياه، حتى يمتص غضب بعض الزبناء، ويلطف الأجواء ببعض المستملحات التي يرددها بين الفينة والأخرى على مسامع بعض الزبائن الذين تعودوا على التردد على المقهى التي يشتغل بها منذ سنوات. يخبئ محمد خلف ابتسامته همومه، ومشاكله الاجتماعية التي يعيشها خارج المقهى. لكن تلك الابتسامة لا تنجح في تغليف عدم رضاه على المهنة التي يشتغل بها ليس لأنه يحتقر مهنته كنادل مقهى، ولكن لأن هذه المهنة لا توفر له مدخولا محترما يكفيه لتغطية متطلباته الأسرية. محمد الذي يمارس هذه المهنة منذ سنوات شبابه الأولى حين كان عازبا، تنقل بين عدد من المقاهي بحثا عن تحسين دخله، حتى قبل أن يتزوج لكنه بالرغم من ذلك لم يتمكن من ذلك، فالمبالغ التي كانت تضاف لمرتبه كانت هزيلة جدا، لا تسد حاجياته خاصة بعد أن رزق بطفلين، ينتظران منه الكثير، فمرتبه الزهيد الذي لا يتعدى الألف وثلاثمائة درهم شهريا دراهم معدودة لا تكفيه حتى إن وهو يكتري غرفة مع الجيران. كثيرا ما يجلس محمد وحيدا يفكر في مستقبل أبنائه. « كيف غادي تكون حياة ولاد الكرصون؟» يتساءل بينه وبين نفسه فالرجل يخاف على مشاعر أبنائه من الكلمات الجارحة التي قد لا يتردد البعض في قذفهم بها وكأن عمله الذي يفني فيه ساعات طويلة من اليوم سبة في حقه وفي حق أبنائه. يتمنى محمد لو أسعفه الحظ وحصل على عمل آخر لا يحرج على الأقل أقرب المقربين إليه لكنه يعمل زن مؤلاته لا تسمح له حتى بمجرد الحلم لا يجد محمد عزاءه إلا في «البوفوار» الذي يقدمه له الزبائن الذين يترددون على المقهى، والذين قد يرفعون من أجرته إلى ما فوق الألف وسبعمائة درهم في الشهر، بالإضافة إلى مدخول زوجته التي تعمل من أجل مساعدته على مصاعب الحياة، حيث ردد أن الفضل يعود إليها لأنها « بنت الناس» وتستطيع تدبر شؤونها المنزلية دون أن تسقط في التبذير. المسؤولية الملقاة على عاتق محمد تجعله كثير التفكير في مستقبله ومستقبل أطفاله، وهو الذي يعمل منذ سنوات دون أن يكون مسجلا في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ولا يتمتع بأي تغطية صحية، يقول محمد «احنا كنضبربو تمارة غير هاكاك إلى مخدمتش منتخلصش».