بقلم: عبد الصمد الخزروني مقدمة رمضان مأخوذ من الرمضاء، في القاموس: رمض يومنا كفرح: أي اشتد حره، وقدمه احترقت من الرمضاء للأرض الشديدة الحرارة. وسمي شهر رمضان به لأنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها. فرافق زمن الحر، أو من رمض الصائم: اشتد حر جوفه، أو لأنه يحرق الذنوب، ورمضان إن صح أنه من أسماء الله تعالى، أو راجع إلى معنى الغافر، أي يمحو الذنوب ويمحقها1 عندما نذكر شهر رمضان فإننا نذكر شهرا متميزا عن باقي الشهور من حيث فضله وأجره وحرمته، ومن حيث ما يرتبط به من معان وأحداث. شهر فرض الله فيه الصيام، ويداوم فيه المؤمنون على القيام، شهر أنزل الله فيه القرآن، وحث فيه النبي صلى الله عليه وسلم على الجود والإحسان، شهر الإقبال على ذكر الله والتضرع بالدعاء، شهر الجهاد والاجتهاد، شهر فيه ليلة القدر خير من ألف شهر، شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، شهر من اعتكف عشره الأواخر نال من الخير الكثير. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر غفر له ما تقدم من ذنبه" . وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون". والريان يحمل معنيين: "إما لأنه بنفسه ريان لكثرة الأنهار الجارية إليه والأزهار والأثمار الطرية لديه، أو لأن من وصل إليه يزول عنه العطش يوم القيامة، ويدوم له الطراوة والنظافة في دار المقامة" . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة." رمضان شهر الصيام والقيام - الصيام الصوم والصيام في اللغة: هو الإمساك، وفي الشرع: إمساك مخصوص في زمن مخصوص عن شيء مخصوص بشرائط مخصوصة. بمعنى إمساك المكلف بالنية عن الطعام والشراب والنكاح والاستقاء من الفجر إلى المغرب. وقد فرض الصيام في السنة الثانية من الهجرة. وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وقد صام تسع رمضانات. يقول الله عز وجل: يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون . فالآية تفيد حكم الصيام وهو الوجوب بصيغة "كتب"، كما تفيد أيضا المقصد منه وهو حصول التقوى. وللصيام فوائد على المستوى الفردي أعظمها كسر النفس وقهر الشيطان والزيادة في الإيمان بالإقبال على الطاعات والانتهاء عن المعاصي والذنوب. وله فوائد على المستوى الجماعي أعظمها التكافل الاجتماعي والتآلف القلبي والتعاون على البر والتقوى. لا شك أن المؤمن يكون في شوق إلى حلول هذا شهر لما يعلم من خير كثير هو مقبل عليه، فيستعد من بعيد بأيام قبل حلوله، وذلك بوضع برنامج يغتنم فيه الوقت المبارك، ويغترف منه الزاد الكافي الذي يعطي له الدفعة القوية في ارتقاء مدارج الإيمان، كما يعطي له النفس الطويل في الحفاظ على درجة التقوى إلى ما بعد شهر رمضان بأيام بل شهورا. ولابد للمؤمن إذا أن يحرص أشد الحرص على أن يصوم شهره بنية ترقى إلى أن تكون إحسانية، وبخلق حسن يرقى إلى أخلاق الأنبياء عليم الصلاة والسلام، يحاول ما أمكن أن يتجنب كل ما يعكر عليه صومه، وبهمة ترقى به إلى صف المجاهدين العاملين، تأبى له الكسل والنوم العميق. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عيه وسلم: "كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرأ صائم." - القيام عن أبي سلمة أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله يقول لرمضان: "من قامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه". جاء في شرح الحديث من كتاب فتح الباري لابن حجر قوله: "والتراويح جمع ترويحة وهي المرة الواحدة من الراحة كتسليمة من السلام. سميت الصلاة في الجماعة في ليالي رمضان التراويح، لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون كل تسليمتين... وذكر النووي: أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح، يعني: أنه يحصل بها المطلوب من القيام لا أن قيام رمضان لا يكون إلا بها". عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمان بن عبد القاري أنه قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا بالناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب. ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون. يريد آخر الليل وهم يقومون أوله" . قال ابن بطال: "قيام رمضان سنة، لأن عمر إنما أخذه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما تركه النبي صلى الله عليه وسلم خشية الافتراض... وقوله: "قال: نعم البدعة"، في بعض الروايات: نعمت البدعة، بزيادة تاء، والبدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق، وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة، والتحقيق أنها إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة، وإن كان مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة. وإلا فهي من قسم المباح، وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة. رمضان شهر القرآن والإحسان - القرآن يقول الله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان . "أنزل الله القرآن على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم لهداية البشرية، فكان نزوله حدثا جللا يؤذن بمكانته لدى أهل السماء وأهل الأرض، فإنزاله الأول في ليلة القدر أشعر العالم العلوي من ملائكة الله بشرف الأمة المحمدية التي أكرمها الله بهذه الرسالة الجديدة لتكون خير أمة أخرجت للناس، وتنزيله الثاني مفرقا على خلاف المعهود في إنزال الكتب السماوية قبله أثار الدهشة التي حملت القوم على المماراة فيه، حتى أسفر لهم صبح الحقيقة فيما وراء ذلك من أسرار الحكمة الإلهية، فلم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم ليتلقى الرسالة العظمى جملة واحدة ويقنع بها القوم مع ما هم عليه من صلف وعناد، فكان الوحي يتنزل عليه تباعا تثبيتا لقلبه، وتسلية له، وتدرجا مع الأحداث والوقائع حتى أكمل الله الدين، وأتم النعمة" . - الإحسان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقيه سيدنا جبريل عليه السلام أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان، يكثر فيه من الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن والذكر والقيام والدعاء. غير أن المؤمن يفهم الإحسان فهما واسعا ليس كما تعود الناس أن يحصروه في الصدقة والبر والجود، فهذا ليس إلا جزء منه. المؤمن يفهم الإحسان بأنه كما ورد في الكتاب والسنة له معاني ثلاثة: - الإحسان في العبادة: أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فإنه يراك. - الإحسان في المعاملات: إلى الوالدين والأقربين وإلى الناس وخلق الله أجمعين. الإحسان في العمل: بمعنى إتقانه، سواء العمل العبادي أو العادي أو المعاملاتي. فهذه المعاني الثلاثة تعطينا مواصفات المؤمن الصالح في نفسه وخلقه وتعامله في المجتمع. تعطينا الوصف المطلوب لعلاقات العبد بربه وبالناس وبالأشياء. رمضان شهر الذكر والدعاء - الذكر يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم. وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا. وإن أتاني يمشي أتيته هرولة". "آثار ذكر الله فيك إحياء قلبك، وآثاره في مجتمع الغفلة والفتنة أن يسري شفاء ذكر الله في الجسم المريض. تذكر الله في ملإ عندما تؤذن للصلاة، وعندما ترفع شعار التوحيد بين المتنكرين لدينهم، وعندما تدعو هذا وذاك وهذه الجماعة وتلك إلى الله. تحاضر، وتحاج، وتخاصم في الله. كله ذكر. والورد المواظب عليه بآداب الذكر، ومنها الطهارة واستقبال القبلة والحضور القلبي، منه تأتي القوة التي تحملك إلى محافل الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله." - الدعاء لقد كان الدعاء من شيم الأنبياء كلهم عليم الصلاة والسلام، فمما جاء في كتاب الله العظيم على لسان آدم وحواء: قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين . وفي شأن سيدنا نوح وسيدنا أيوب وسيدنا زكرياء، قال تعالى: ونوحاً إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم* ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين، وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وأتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين" "وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين* فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين* وزكريا إذ نادى ربه ربي لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين* فاستجبنا له ووهبنا له يحي وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين . الدعاء مخ العبادة، بل هو العبادة، ومن أشرف الطاعات التي أمر الله به عباده فضلا وكرما فقال سبحانه: أدعوني أستجب لكم . وروى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "من لم يدع الله غضب عليه" . ولأبي يعلى عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه في حديث: "وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلي الإجابة." . "وللدعاء آداب منها أن لا يعجل ويقول: دعوت فلم يستجب لي، ومنها ألا يرفع رأسه في دعاء الصلاة، ومنها أن يظهر المسكنة، وأن يتباكى تضرعا لله تعالى، ومنها الحضور القلبي لكي لا تصبح الأدعية كلمات تلاك، ومنها ألا يدعو على نفسه وأهله وماله، ومنها الدعاء في الجماعة تناوبا واحدا ويؤمن الباقون" . ولا يغفل المؤمن عن التأسي بدعواته صلى الله عليه وسلم، فقد ورد عنه أدعية جامعة، وأدعية المناسبات، وأدعية الأوقات، وأدعية أثناء العبادات، وأخرى في الأكل والشرب والعادات. وللمؤمن في رمضان دعوات لا ترد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للصائم عند فطره دعوة لا ترد". ومن الدعاء المأثور عنه صلى الله عليه وسلم عند فطره، كان يقول: "ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله." رمضان شهر الجهاد والاجتهاد - الجهاد جاء في الموطأ للإمام مالك رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع" . أما اليوم والأمة غثاء، أمة مغلوبة على أمرها مستضعفة مقهورة، أمة سامها الخسف حكام وأذاقوها الهوان منذ قرون، فالجهاد المطلوب اليوم هو جهاد بناء، بناء ما تهدم من الأمة عبر قرون العض والجبر، وإنه لعمل شاق يحتاج إلى رجال من نوع جيد لهم استعداد جيد لهم من الإرادة والقوة وطول النفس ما يمكنهم من إنجاز هذا العمل حتى النهاية. ورشة كبرى ينبغي أن يستنفر له جميع أفراد الأمة ليجاهدوا كل من موقعه وحسب طاقته، لا يعذر أحد، جهاد متواصل بكل أنواعه وأبوابه حتى يأذن الله بالنصر المبين. ولا يستوي من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكلا وعد الله الحسنى، والله بما تعملون بصير . وفي شهر رمضان رفعت راية الجهاد خفاقة في غزوة بدر وفتح مكة، وفي عدد من السرايا بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. - الاجتهاد فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها". عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيى ليله، وأيقظ أهله". المؤمن المتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم هو من يقتفي أثره في سلوكه واجتهاده. رمضان شهر الاعتكاف وليلة القدر - الاعتكاف اعتكاف العشر الأواخر من شهر رمضان إنما هو دليل على طول نفس المجتهد فيه، وعلامة على صلاح بدايته لإشراق نهايته، فكم من واحد اجتهد في الأيام الأولى ثم ما لبث أن انطفأت شمعته، فتهاون في صلاته، ونام عن ورده، ورجعت حليمة إلى عادتها القديمة. نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن السلب بعد العطاء. الاعتكاف عكوف على الجائزة من الحرمان، وقرب أكثر من الملك الوهاب، ونيل لمقامات الإحسان. - ليلة القدر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاكم رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم". وفي حديث آخر رواه ابن ماجة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم منها إلا كل محروم" . ما هي إلا أيام عشر يجتهد فيها المؤمن فيكتب له الخير كله، أي رحمة هذه من المولى عز وجل على هذه الأمة. اللهم لا تحرمنا خير هذه الليلة، واكتب لنا الخير كله، ولا تجعل فينا شقيا ولا محروما. خاتمة وفي الختام ختم الله لنا ولكم في هذا الشهر المبارك بالحسنى وزيادة، لابد أن نذكر بهذه النعمة العظيمة وما تستوجبه منا من حمد الله عليها أداء لحقها، ومن شكر الله عليها طلبا للزيادة في أجرها، وما تستوجبه منا من فرح بها وفرح أعظم بمن أنعم بها علينا، وما تستوجبه منا أيضا من التحدث بها ومحبة الله عليها، فقد قال النعمة العظمى صلى الله عليه وسلم: "أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا آل بيتي لحبي" . فنسأل الله تعالى العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا ولآخرة، آمين، والحمد لله رب العالمين.