محمد مغنوج: أستاذ متدرب بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين - جهة فاسمكناس إن الإصلاحات في مجال التربية والتعليم بالمغرب ليست نشاطا بريئا، بل تنطوي على مخططات تهدف إلى عولمته، وجعله خاضعا لاقتصاد السوق، إنه توجه يعانق أحضان الليبرالية المتوحشة التي أوهمت حكومات المغرب المتعاقبة أنها تسعى إلى مساعدتها على تحقيق الجودة، و تنمية الموارد البشرية، والكفايات الأساسية والاستراتيجية، وتفجير الطاقات الإنتاجية والإبداعية التي يحتاجها الإنسان المعاصر للاندماج في سوق الشغل، هذه العولمة الاقتصادية عملت على تحرير المبادلات التجارية، وسهلت تنقل رؤوس الأموال، وخصخصة القطاعات الحكومية، وتهميش دور الدولة، رافعة بذلك شعار " ما ينتجه السوق فهو صالح، أما تدخل الدولة فهو طالح" مما جعلها مغرمة بالشركات أو تحولها إلى شركات همها الربح السريع، وما مؤسسات التعليم الخاص بالمغرب التي تتناسل بكثرة إلا خير دليل على صفقة مشبوهة لبيع مستقبل أبناء المغاربة، كما أن الخطاب التربوي الذي يتم تداوله في الآونة الأخيرة ليس سوى محاولة خبيثة إلى تكيف المدرسة العمومية مع الوضع العالمي الجديد، ليس لأن المدرسة - كما يقول الباحث المغربي عبد الفتاح ديبون - مدعوة إلى تعليم نوعي يستجيب لشروط العصر، ويحافظ على استمراريتها كمؤسسة لإنتاج المعرفة وأدواتها، فهذا يبقي شعارا للاستهلاك، وإنما لتدخل المدرسة في شبكة المؤسسات المعولمة من أجل الاستثمار بها حيث إنها أصبحت نقطة جذب لامثيل لها لاعتبارين: الأول: إنها سيوكل إليها تشكيل الذهنية المأمولة، باعتبار الدور التاريخي الذي عُرفت به أداة للتنميط والترويض الثاني: إنها تشكل سوقًا استهلاكية عالمية ضخمة، وهذا ما يفسر المنافسة الشرسة بين كبريات الشركات لاحتلال هذا الكنز المكنون. إنها "سوق التربية" التي أسالت لعاب المستثمرين، وهذا ما يفسر السوق الذي انعقد بين 20 و23 ماي سنة 2000 بكندا تحت شعار "السوق العالمي الأول للتربية"، كما يمكن إدراج أسواق أخرى تسير في نفس السياق على سبيل "أسواق الموارد والخدمات البيداغوجية". من هنا يمكن قراءة تعدد التجارب البيداغوجية على المدرسة المغربية لنصل اليوم إلى ما يسمى ببيداغوجية الكفايات حيث ستتم التضحية بالمعرفة لصالح المهارات، من منا لا يتذكر كيف أن فرنسا بذلت مجهودات لتطبيق هذه البيداغوجية في مدارسها وبعد سنوات قلائل اضطرت للاستعانة برجال الأمن، بعد أن تضاعفت مستويات العنف داخلها، إنها ضريبة التضحية بالمعرفة وما تحمله من قيم سامية في تهذيب النفوس من الانفعالات الضارة .كما يمكن الحديث عن "سوق الأساتذة والتلاميذ" حيث يتم تكوين جيوش من الأساتذة والدفع بهم للعمل في القطاع الخاص بشروط مجحفة خاضعين للعرض والطلب، وتصديرهم كأنهم سلعة، وتعليم تلاميذ من خلال خدعة برنامج التعليم للجميع، الهدف من ورائه إعداد أجيال لاستهلاك تكنولوجيا المعرفة والاتصال، كل هذه المجهودات المعولمة تريد تحويل المدرسة إلى مقاولة هدفها الربح وزبونها التلميذ ومنشطها المدرس، إن المدرسة العمومية أمل كل مغربي وطني يؤمن بأنها الخلاص الوحيد من هذه الاستراتيجيات الليبرالية التي تشعر المتعلم والمدرس بالاستلاب والتمزق، بحيث لا يمكن تصور مدرسة مفصولة عن سياقها المجتمعي، والقيمي، وكمؤسسة تعيد إنتاج قيم المجتمع وثقافته "إذا كان هناك مجتمع - حسب فيلب بيرنو - يريد أن يرسخ بالمدرسة، أخلاقه، وقيمه، وجماليته، وعقلانيته، ووطنيته، فمن الأفضل أن يعلن عن ذلك صراحة، لا أن يمرر قيمه عبر الكفايات "إنها حقائق تبين بشكل صريح أن الاقتصاد العولمي يسعي بكل ثقله الإيديولوجي إلى تسليع التربية والتعليم، و المدرسة العمومية، إنها دعوة صريحة إلى إفراغ العملية التربوية من رسالتها السامية في إعداد مواطن صالح يحب وطنه، ويساهم في تنميته، والدفاع عنه أمام كل المخاطر التي تتربص به، لكن الحكومات تتملص من هذا القطاع الحيوي وتعتبره قطاعا غير منتج، وحان الوقت لترفع يدها عن دعمه. إنها دعوة مباشرة إلى تفويته إلى شركات تستثمر فيه بشروط تفضيلية، ضاربة بذلك عرض الحائط كل الأصوات التي تنادي بمجانية التربية والتعليم. إن الدولة يجب أن تدعم قطاع التعليم، وتضخ فيه أموال هامة من أجل بناء المؤسسات التعليمية وتجهيزها، وتكوين أساتذة، وتوظيفهم في القطاع الحيوي الذي يعاني الاكتظاظ، وليس تكوينهم لخدمة القطاع الخاص المعولم، أو تصديرهم إلى دول الخليج كأنهم بضاعة، فكيف يعقل أن الدولة تعاني مشكل الخصاص في هيئة التدريس، وأقسام تجاوز عدد المتعلمين فيها 50 تلميذاً، وتتحدث عن عقد اتفاقيات مع دول أخرى لتصدير أساتذة مكونين من أموال الوطن، في حين أن بلدهم له أحقية أنطولوجية فيهم؟ إنه جنون العولمة أصاب حكومة المغرب، التي تُيسر دخول قطاع التربية والتعليم في اقتصاد السوق، من خلال إفراغ المدارس من طابعها المجتمعي والقيمي ... متناسية دورها التاريخي في إعداد أجيال الغد.