يتقنون تنميق الكلام، يحسنون انتقاء الخطابات، بارعون في العزف على أوتار الخطاب العاطفي، محترفون في تأجيج النعرات القبلية عند الحاجة، متواضعون حد الانحطاط، حاضرون في كل الأمكنة حتى المهمش منها، مستعدون للتضحية بأوقاتهم الثمينة وبأموالهم الكثيرة في سبيل قضاء حوائج المحتاجين المادية والمعنوية، أفواههم لا تقطر إلا عسلا ولا تنطق إلا وعودا وأحلام وردية، هكذا هم المسؤولون في بلادي دام عزهم أيها السائل لكن ليسوا كذلك طوال السنة بل يأتيهم هذا الوحي شهرا كل خمس سنوات، شهر يسخره البسطاء للأحلام، أحلام بسيطة لا تكاد ترقى حتى إلى رتبة أبسط حقوق الإنسان، ستعبد الطرق وتشيد القناطر وتبلط الأزقة ويزود الدوار بالماء والكهرباء ويشغل المعطل ويعمم التعليم وتوفر الخدمات الصحية و...، ستتحول حياتك البئيسة إلى حياة ناعمة لا خشونة فيها، ولأنه بسيط تدفعه بساطته وربما شغفه للحلم أن يصدق كل ما قيل ويقال فيقوم مساندا لهذا أو ذاك، ثمة تفاصيل دقيقة تكون حاسمة في الاختيار بين هذا المترشح أو ذاك ما دام البرنامج موحدا بينهم جميعا والوعود هي نفسها سواء آثرت رمز البقرة أو البغل أو النمر فالأمر سيان، تنطلق الهتافات وتتعالى الشعارات من هنا وهناك، وتصدح المنصات بأزيز حناجر الخطباء الذين تنهال عليهم تصفيقات أيدٍ لم تعط عقولها فرصة استيعاب ما قيل حتى باشرت التصفيق، تتحرك المواكب في الأزقة والشوارع ويبدأ التلاسن الذي يتطور غالبا إلى اشتباكات عنيفة بين المشاة الذين يُدفع بهم إلى ساحة المعركة حتى لا تسقط القلاع ويحاصر الشّاه. تهدأ المعركة فجأة فيعم الصمت المكان وحدها الأوراق الملونة التي تطلى بها كل الحيطان ويرمى بها في كل الشوارع تبقى شاهدة على أن المعركة مرت من هنا وكأنها جثث قتلى تنتظر أن تمر شاحنة نقل الأزبال لتحملها إلى مثواها الأخير. انتهى القتال، حسمت المعركة، ساعات قليلة تخصص للاحتفال في المقرات التي تفتح أبوابها مرة كل خمس سنوات، يسدل الستار فيختفي الأبطال من فوق خشبة المسرح يغيبون كأنهم لبسوا طاقية الإخفاء وحده الكومبارس يجلس في الخشبة يمرر عينيه في الخشبة ذات اليمين وذات الشمال من أسفل إلى أعلى لا شيء لا أحد هنا، يغادر الجمهور القاعة ساخطا فيقسم أنه لن يأتي ليحضر العرض القادم لكن لا تكاد تمر خمس سنوات أخرى حتى ينسى الجمهور أنه قد خدع من قبل فيعود من جديد ليشاهد المسرحية ليسقط في نفس الفخ مجددا. تمر الساعات والأيام والشهور في الانتظار، في كل يوم يجلس البسيط في المقهى قبالة البسيط الذي كان قد اشتبك معه اشتباكا عنيفا ذات نهار، يدخن كل منهما سيجارته الرخيصة في صمت، اقترب البسيط من البسيط هامسا في انكسار: خُدِعْنا، يجيب البسيط: نعم خُدِعْنا، يضحكان ملء فميهما، وحدهما يعرفان سر تلك الضحكات لا يفهمها الرواد ولا المارة في الشارع. مضت خمس سنوات، انتهت اللعبة، توزع القطع في رقعة الشطرنج من جديد، أيها اللاعب لا نتس وضع المشاة في المقدمة فهم وحدهم المستعدون للتضحية حتى لا تسقط القلاع ولا يحاصر الشاه.