من يقف أمام جهاز تلفاز الدولة المغربية في هذه الآونة سيدرك تمام الإدراك أن بوادر موسم الانتخابات تلوح في الأفق، وأن الآلات والمطاحن التي تدبر مراسيمها ومهرجاناتها قد بدأت أصواتها تهجهج هنا وهناك بمختلف المناطق المغربية، ابتداء من عملية الإحصاء العام و القوافل والمهرجانات والتجمعات الحزبية إلى القشب والشيزوفرينيا والكلام الفاحش والمسرحيات الرديئة بمؤسسة البرلمان ثم التحركات والنشاط الكثيف الذي يعرفه المجتمع المدني. ويبدو ذلك جليا بمناطق الأطلس المتوسط (من الحاجب إلى خنيفرة ثم ميدلت) حيث بدأ كل من على الأرض من البشر يُحيى ويُبتسم في وجوههم بعد طول النسيان والإقصاء والممات الذي شهدوه طوال الست سنوات الفارطة أو بالأحرى طوال حيواتهم. وإذا عملنا بحسن النية وافترضنا أن كل ذلك يندرج ضمن مسؤوليات ومهام هؤلاء الفاعلين الثلاث، سنجد أنفسنا بكل تأكيد ودون أن يجادلنا أحد أمام سؤال بديهي جدا لن يغفله سوى الجاحد : لماذا يحدث هذا النشاط الكثيف وهذه الدينامكية من أجل الانتخابات دون أن يكون التوجه ذاته من أجل إيجاد حلول عملية لمشاكل الناس وتلبية احتياجاتهم الضرورية للعيش الكريم؟ لن أسعى للإجابة مباشرة على هذا السؤال، ولكن مرادي بالذات هو: - أولا، نقل صورة واقعية لمجال ترابي كما هي مجسمة ومجسدة بين ثنايا هذا الوطن، لاطلاع الرأي العام على أشد أساليب التهميش والإقصاء والعزلة قسوة في ظل افتراضنا السابق. - ثانيا، طرح استفسارات حول مسؤوليات هؤلاء بخصوص هذا الوضع الذي يبدو متعمدا وممنهجا اتجاه هذه المنطقة وكذا حول لامبالاتهم المنتهجة إزائها أثناء الكوارث الطبيعية التي تتعرض لها غير ما مرة. إن المنطقة "أنكزظم، جماعة أم الربيع، قيادة الحمام، دائرة أجلموس، إقليمخنيفرة" موضوع الحديث ليست سوى منطقة منكوبة، تعرضت خلال الأسبوع الماضي لوابل من البرد (تبروري) أردى كل الحب أرضا وأردأ كل ما بقي عالقا بالشجر وبالنبات، تلته أمطار غزيرة وطوفانية جرفت كل المحاصيل ولم تبقي من النبات والعشب ما سيكفي لسد رمق الماشية التي كدر عليها فصل الشتاء القارس، وأدت سيولها إلى قتل عدد كبير من المواشي و إلى انهيارات وتشققات في جدران البيوت وانجراف للتربة، كما أدت إلى قطع كل الطرق المؤدية منها وإليها محولة إياها إلى بقعة معزولة تماما عن العالم. كما تبين الصورة أعلاه، فالمنطقة عبارة عن كومة صخرية موجودة بأخدود على سفح جبلين شاهقين، ما يعني طبعا أن نصيب قاطنيها من الأرض يساوي الصفر (0) لأنها ببساطة تتكون من: ملك غابوي غير مباح استعماله لسكان المنطقة ويجرم كل من خولت له نفسه الاقتراب منها ولعل ما وقع السنة الفارطة بأجدير خير دليل على ذلك. والباقي منها فقد جرفته الأمطار الرعدية المتتالية على المنطقة منذ سنوات عدة ولم يعد صالحا للزراعة. وبذلك فقد ظهرت هناك محاولات بديلة من قبيل غرس أشجار الزيتون واللوز غير أن كل ذلك باء بالفشل نظرا لانعدام الخبرة والتجربة من جهة وقلة وعدم توفر مياه السقي من جهة ثانية. أما الطريق غير المعبدة التي تبدو على الصورة فلم تعد الآن صالحة للاستعمال ما ينذر بكوارث بشرية بسبب عزلة المنطقة( نساء حوامل، مرض الأطفال والمسنين...). ومن خلال ما سقناه أعلاه ستتبادر إلى أذهاننا بدون شك مجموعة من الأسئلة من قبيل: ماذا يملك إذن أولائك الناس القاطنين بهذه المنطقة؟ وكيف يحصلون على قوتهم اليومي في هذا العرى المقرف؟ ولماذا أبوا الخروج من هذه المنطقة ما دامت هي كذلك؟ إن ما تملكه الساكنة المحلية هو بكل بساطة ثلاثة أنواع من الأملاك التي لا تغني سوى غيرهم مقابل تفقير إياهم ونقصد بذلك: 1- بطاقة التعريف الوطنية. 2- بطاقة الناخب. 3- بطاقة العضوية في جمعية أو تعاونية. الإشارة إلى هذه العناصر ليس مزحة أو تنكيت وإنما هي واقع له دلالات اجتماعية واقتصادية وسياسية عميقة، ربما تشكل أيضا أساس الدينامكية السياسية والاقتصادية للبلد ككل وقد يتعدى الأمر ذلك إلى المستوى الوجودي والكينوني والثقافي والأمني للأمة المغربية كما سنوضحه أسفله. على المستوى الأول يمكن أن نجزم بأن سكان بلدة أنكزظم قد تباهوا على مر التاريخ ببلادهم المغرب وافتخروا بها افتخارا وتشبثوا بها ودافعوا عنها ببسالة وقدموا لها النفيس والغالي في كل مناسبة نُدي عليهم من أجل ذلك ولعل أفواج العاملين في صفوف القوات المسلحة المرابطة على الحدود (الصحراء، الشرق...) والقوات المساعدة وكل أصناف الدفاع الوطني من جهة وجيوش العمال(نساء ورجالا) المنتشرة بمختلف المناطق المغربية من جهة ثانية خير دليل على ذلك. فقد دفع بهم الفقر والعوز أو بالأحرى سياسة البلاد إلى كثرة الإنجاب وتوفير احتياطي مهم من اليد العاملة ساهمت بقوة في حماية الوطن واستقراره وقدمت خدمات جليلة لجيوش أجنبية باسم هذا الوطن كما عملت بفعالية على تنشيط عجلة الاقتصادين الوطني والأجنبي. ويمكن بذلك القول باختصار شديد أن الدولة سعت من خلال سياستها اتجاه المنطقة منذ بداية القرن الماضي إلى فرض أمر واقع تحولت بموجبه الأخيرة إلى معمل ذو إنتاج ذاتي auto-productif محض، حيث يمتهن سكان البلدة وظيفة إنتاج أياد عاملة رخيصة وغير مؤهلة ويقومون بعد تأهيلها بدنيا بتقديمها وعرضها بدون شروط في المزاد بالسوق كقوة عمل متناول ابتياعها ومن ثمة إمكانية المشتري في تسخيرها بعد هذا التذليل والجرد من كرامتها في أعمال دنيئة، سواء لصالحها أو خدمة لغيرها من قوى أخرى، تمنع إياهم من إمكانية الارتقاء الاجتماعي وأبنائهم بعدهم. أما المستوى الثاني فيأتي ضمنيا لخدمة المستوى السابق، ذلك أنه على الرغم من مواظبة هؤلاء على أداء واجب التصويت دون قيد أو شرط في كل مناسبة انتخابية، فإنه لا توجد هناك أية مؤشرات تظهر مدى إيجابية انعكاسات ذلك على حياتهم النفسية الصحية الاجتماعية الاقتصادية الثقافية البيئية. فالآلة الانتخابية تمكنت من زرع بذور البغض والحقد والكراهية والمنكر والفساد والتعصب بين أبناء المنطقة وعملت من خلال المنتخبون على رعاية هذا النموذج من العلاقات التي تنفر هذا من ذاك وتشحن هذا ضد ذاك وتحرض هؤلاء ضد أولائك وتشجع النفاق والرشوة والزبونية وعدم الثقة وتحرص على التبعية والخوف الدائم من الآخر ومن ثم تلاشت بالتالي علاقات التضامن والتعاون والتماسك والتعاضد والإخاء بين أفراد الجماعة وأضحى الجيل الجديد فاقدا لهويته التي تميزه كمجتمع محلي وإذا كان السكان المحليون قد فقدوا هويتهم المحلية والإطار العلائقي المؤطر لسلوكاتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والبيئية فإن ثمن ذلك ليس بالهين وتجسده من جهة أولى حالة هذا المجال الترابي الذي تمزق، خلال فترة وجيزة، إربا إربا وتصدعت قواه التي طُبعت بشحنات سلبية تمنع تقاربها و تزيد بالمقابل من تنافرها بعيدا بعيدا، ويتجلى من جهة ثانية في الكم الهائل من الثروات المحلية التي تدع وتجمد في خزينة الدولة تحت ذرائع واهية (جبل عوام )وتلك التي تدع في صندوق الجماعة المحلية(باعتبارها مصنفة ضمن أغنى جماعات المغرب) في وقت تجف عروقهم من دماء الحياة بعلة الفقر والحرمان والبؤس والأمراض المزمنة النفسية والعضوية التي تجتاح المنطقة. أما المستوى الثالث فليس في واقع الأمر سوى تتمة لما سبق من أجل تعميق المسافة الفاصلة بين مجتمع محلي متماسك ومتعاضد(البلدة في سابق عهدها) وتجمع من أفراد متنافرة مصالحهم وتسود بينهم علاقات العداوة والكراهية والحقد والحسد والتشنجات والصراعات المدمرة للذات (واقع البلدة حاليا). قد يبدو من الوهلة الأولى أن صيغة "جمعية"، "تعاونية" تحمل في طياتها دلالات عكس ما نزعم أنه واقع، وبطبيعة الحال لا أنكر ذلك لسبب بسيط مفاده أن المصطلحين يحيلان إلى: الجمع وليس إلى الفرد. اتفاق وتجاذب وليس تنافر. تعاون وتعاضد وليس فساد وحقد. ... الخ إلا إن إمعان النظر في ما يجري على أرض الواقع سيقنعنا إقناعا بأن المساحيق التي تزين هذا الثنائي سرعان ما ينكشف بطلانها وتنجلي خباياها. ودون الغوص عميقا في حيثيات العمل الجمعوي والتعاوني بالمغرب بشكل عام، يجدر بي أن أشير إلى بعض من النقاط التي تفصح جليا عن الارتباط الوثيق بين الأخير والمستوى الثاني. إن ملاحظة بديهية ستمكن أيا كان من إدراك أن معظم الجمعيات والتعاونيات لا يسيرها الأهالي بتاتا بل يقتصر دورهم على الانخراط وملء الفراغ لا أقل ولا أكثر، أما مهمة التسيير والتدبير فتعود غالبا إلى ذوي النفوذ والسياسيين دون غيرهم، حيث تمكن هؤلاء من إحكام قبضتهم على كل ثنايا وتفاصيل هذه التنظيمات محولة إياها إلى أدوات للمزيد من تعميق الفوارق وتوسيع رقعة التشتت والصراعات والخصومات وتدمير كل ما لم يتم القضاء عليه في إطار المستويين السابقين وكسب الأصوات وتحقيق المآرب الشخصية وخدمة الأهداف الحزبية. إن كل جمعية وتعاونية هي أقرب التنظيمات من بيوت الساكنة المحلية، فهي التي تقف عن كثب على مشاكلهم طبعا وهي القادرة أيضا على إدراك طرق تفكيرهم ونمط عيشهم وفهم شكل ومضمون وعيهم الذاتي والجمعي، وبذلك تتضح الرؤية لديهما للاختراق وتحقيق الأهداف المصممة على المستوى المركزي للبلد سواء كان ذلك عن وعي أو بدونه. خلاصة: أولا، من الواضح جدا أن جغرافية المنطقة شرسة أشد الشراسة ضد أبنائها، علاوة على تقلبات المناخ التي تحطم آمالهم في مناسبات عديدة وتعمق من جراحهم وتزيد من تدهور حياتهم البائسة والخشنة، ومجمل القول فالساكنة المحلية لازالت في صراع غير متكافئ مع الطبيعة وجها لوجه ليبقى السؤال المهم والأساسي: ما هي مسؤوليات الفاعلين الثلاث أعلاه اتجاه هذه الثلة من الناس التي لازالت مضطهدة اضطهادا من قبل الطبيعة؟ ثانيا، إذا كان ما ذكرناه أعلاه مرتبطا بقدر ما وبشروط تاريخية واجتماعية وسياسية أي أن هناك دوافع ربما سياسية (صراعات قبلية، مقاومة المستعمر...) بالذات هي التي دفعت هؤلاء الى المكوث قسرا بهذا المكان، فإن لامبالاة الدولة في الوقت الراهن اتجاههم يعد دون شك انتهاكا صارخا لحقوق هؤلاء في الحياء أولا والعيش ثانيا والكرامة ثالثا... إن كيفية تعاطي الدولة مع هذه المنطقة يدفع إلى ضرورة التساؤل حول مقابل والتعويض عن الخدمات التي يؤدنها بوفاء وإخلاص كبيرين لصالحها. ثالثا، من المؤكد دوما أن القبيلة التقليدية قد تلاشت وحلت مكانها الجماعة المحلية التي استولت على كل الثروات التي كانت القبيلة تتمتع بها سابقا وأضحت من ثم المسؤول الوحيد عن تسيير وتدبير الشأن المحلي، وإذا كانت العناصر المؤثثة لهذه المؤسسة المحلية هي من اختيار (شكليا) السكان، فمن الطبيعي جدا أن نسعى إلى التساؤل عن الفائدة والمنفعة من ذلك إن لم تكن هي الوقوف بكل جد وحزم إلى جانبهم في الأفراح والأتراح؟ رابعا، إن كبوات الدولة ومؤسساتها في تدبير الشأن المحلي وتقديم إجابات وحلول ملموسة للمشاكل التي تتخبط فيها الساكنة المحلية، دفع بها إلى تبني سياسة جديدة من أجل التقرب أكثر فأكثر من المواطن والاطلاع الجيد على احتياجاته الضرورية وملامسة عن كثب لمشاكله اليومية، وذلك عن طريق فتح المجال أما المجتمع المدني (الجمعيات والتعاونيات) الذي يعد الأكثر قربا من السكان والأقدر على التواصل الجيد مع متطلباتهم، فهل تحقق ذلك بالفعل؟ وهل القيمون على هذه التنظيمات محليا يشتغلون وفق هذا التوجه؟ أخيرا، أليس واجبا على هؤلاء الفاعلين الثلاث تقديم العون والمساعدة لهؤلاء السكان والوقوف إلى جانبهم في هذه المحنة التي ألمت بهم في الوقت الراهن؟ وما هي مسؤوليات الدولة والتزاماتها اتجاه الفساد المستشري في دواليب الجماعات المحلية وبالجمعيات والتعاونيات، على اعتبار أن الطرف المتضرر بالدرجة الأولى هم الساكنة المحلية؟