غالبا ما نلاحظ هنا وهناك أن الإنسان المغربي البسيط يمر بأزمات حقيقية، ومصطلح الأزمة يتردد في خطاباتنا باستمرار، لدرجة أن الكثيرين استسلموا لقدرهم المشؤوم بدعوى أنه "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"، لكن واقع الحال يدحض الرأي القائل بأن التراتبية المجتمعية قدر مُنزل لكن هذه التمثلات بالية ومنتهية الصلاحية بشهادة العلوم الاجتماعية. تتهدد الإنسان البسيط مجموعة من العراقيل التي تنغص حياته وتجعل منه إنسانا خبزيا بامتياز بمعنى أن مسعاه الرئيس في ضل شروط مملاة من على، هو تحقيق لقمة العيش التي ستسد رمقه وتبعده عن كابوس الفقر المدقع، وفي هذا الاستدعاء المكثف لحديث الفقر يجرني القول إلى ذكر أسباب ومسببات هذا الفقر ما دامت الشروط موضوعية بالدرجة الأولى، فالمواطن الكادح يتأرجح بين ثنائية الإقصاء وتسويق الأوهام من طرف طحالب تنمو في هامش الماء العكر، هاته التي تغتني على حساب )جهالة( الإنسان المقهور لدواليب لعب السياسة الخبيثة، تلك التي تعاني من شرخ عميق بين المصرح به، والمطبق على أرض الواقع، ومن أول تلك اللعب نجد الانتخابات أو الكرنفال الانتخابي، هذا الذي لا يستقيم إلا لمن سولت له نفسه مضاجعة الملايين، و أتقن فن دهس جماجم الشرفاء، فعل الانتخابات أكبر تجلي للأوهام ولحكايات ألف ليلة وليلة التي تستحضر في الأذهان المدينة الفاضلة الطافحة بالعيش الكريم، والعدالة الاجتماعية، والأخلاق الكانطية والتي ستقطع مع الدراماتيكية النيتشوية، لكن الأحلام اليوتوبية سرعان ما تتبخر في سماء الضيم، ويتكرر سيناريو الإنسان المهدور، والقيم المائعة، والأجساد المستباحة- المستباعة. إنه صراع بين الخير والشر، والبراءة والمكر، بين سياق نفسي "سادي" يحب إيذاء الآخرين من بني جلدته الذين غدوا "مازوشيين" بفعل فعلاته. أما ثاني تجلي لأوهام الساسة هي خطابات ما بعد النجاح انطلاقا من صناديق الاقتراع حيث أنهم يراوحون بين منطق الانتظار، وحدث تأخر المشاريع مقتدين بالمثل الشعبي القائل "اللي بغى يربح العام طويل"، فالخطابات المنمقة الغنية بالمحسنات البديعية، والأساليب الإنشائية والتي تصلب إقناعيتها، و بالفعل تجد طريقها إلى "العقول الضعيفة"، وتتسرب بسلاسة إلى نفس الإنسان المفرط في إنسانيته، فرغم الركوب على كرامته يستسلم لشاعرية الحديث. هذا ما هو كائن أما ما يجب أن يكون فهو تحديد الأولويات من خلال إيلاء الأهمية للسياسة الاجتماعية التي ستنهض بالفئات المستضعفة وتعيد إليهم الثقة بإطلاق مشاريع توفر فرص الشغل وتدر الدخل، إضافة إلى محاربة الفساد والريع، ومحاولة تهدءة تسونامي الزيادات في أسعار المواد الغذائية والمحروقات، ونصب ميزان العدل بين ابن الطبقة الكادحة والطبقة البورجوازية، وتفتيت اللوبيات والزعامات المحلية، والقضاء على الأعيان وكل مظاهر العينية التي تعود بالذاكرة إلى الاستعمار، هؤلاء الذين يرسخون تكالباتهم الماسخة، والوفاء بالوعود والتعاقدات إذ كانوا بالفعل حداثيين وذووا مرجعيات حزبية تحررية تدعوا إلى العدالة الاجتماعية والتقسيم العادل للثروة. والأساسي في كل هذا هو ضرورة "الاستثمار" في الإنسان لا الاستثمار في الحجر، ثم مخاطبة الناس في اللقاءات بلغة المساواة دون إعارة النياشين أدنى اعتبار، في هذه الحالة سيكونون فعلا أمام رد فعل حقيقي للإنسان المهدور المحتمي بالعراء والمفترش الأرض. وفي نفس السياق أستحضر مدينة تيغسالين باعتبارها لا تشكل استثناء في دينامية الفقر التنموي، والنزيف السياسي فالمواطن المنتمي للبلدة يجد نفسه مجبرا على الرضوخ للأقدار الاجتماعية المحضة المحبوكة من طرف اللوبيات، فكثيرا ما يندب الإنسان "التيغساليني" حظه ويبالغ في جلد الذات، ويتباكى على خطيئات ارتكبها بصيغة جنائزية على أساس أنه لا شيء تحقق، لكن ما دامت حركات تصحيحية واعية موجودة لابد أن يكون أمل. وأستاذنا حميد اتباتو يقول "سيجد السياسي ما سيبرر به حياده، لكن أن يسعى المنتسب للثقافة أن يعلن حياده فهذا مسألة أكثر عبثية". في ختام هذه المقالة لايسعني إلا أن أشيد بكل حاملي الفكر الحر البناء، الذين يضحون بالغالي والنفيس لخدمة الإنسان رغم الديمقراطية المعطوبة، والحقوق المنكوبة المحرفة عن سياقاتها، كما أن الرأي حر والفكرة تناقش والقرار ملزم، مع دعواتي بانبعاث القيم المرجعية والمصداقية السياسية، لكن ربما أنا أحلم و انشد عهد يقظتي. "لا أعرف شيء إلا أنني أعرف شيء واحد هو أنني لا أعرف شيء" سقراط. بقلم: أحمد الدياني.