لقد تميز العصر الحديث بالتوجه نحو التضييق على الوظيفة المعرفية و العملية التي تؤديها مختلف العلوم في حياة البشرية و محاصرة رسالتها النبيلة و النفعية و امتداداتها الإيجابية في المعيش اليومي للإفراد و الجماعات ،فلم يعد كل ما يحبك و ينشر من دراسات علمية بريئا و منزها عن الرهانات و التوظيفات الإديولوجية ،خاصة عندما يتعلق الأمر بالعلوم التي تقارب دينامية البنيات الثقافية و اللغوية و الدينية و العرقية و الجينية...لمكونات المجتمع ،حيث يقترن استثمار النتائج المحصلة بسن السياسات التي لا تخلو عادة من الخلفيات التحكمية و الاقصائية أو الإدماجية. و هكذا يمكن ذكر نماذج لعلوم بعينها (الإحصاء ،الإثنوغرافيا ،الانثروبولوجيا...) حيث يصعب أحيانا تجلية حدود الموضوعي و الموجه فيما أفضت إليه من نتائج ،وذلك لاقترانها بأحداث تاريخية و سياسية مؤلمة ،ظلت راسخة في المخلية الجمعية للشعوب ،فالحديث عن الإثنوغرافيا مثلا كعلم غالبا ما يخلق التوجس و الريبة في نفسية بعض المتلقين الشمال إفريقيين باعتبار دراساته و أبحاثه الميدانية مهدت لدخول المستعمر ،وقد زاد من هذا التوجس ،أن كبار الإثنوغرافيون ينحدرون من المؤسسة العسكرية أو من البعثات ذات طابع سياسي أو من المترجمين للجيش.ولهذا نجد أن شارل فيرو الذي يعد من كبار الأثنوغرافيين و الأنثرويولوجيين الدارسين لعادات و تقاليد و ذهنية مجتمع القبايليين في الجزائر لم يكن سوى مترجم للجيش الفرنسي ،أو شارل دوفوكو الذي ينتمي إلى سلك الضباط الفرنسيين و تم استقدامه من الجزائر إلى المغرب و تنكره في زي يهودي من أجل تسهيل إتمام أبحاثه ،وقد كان من الأوائل الذين أصدروا مؤلفات تعنى بخصائص المجتمع المغربي و فتحت الشهية لباقي الطامحين لاستكشاف العقلية المغربية.ورغم أن ظهور العلوم الإنسانية في شمال إفريقيا كممارسة كان ذو خلفية استعمارية و احتوائية ،فإنها لا تعدم القيمة المعرفية و المنهجية ،إذ أن جل هذه العلوم عرفت طفرتها مع فترة الاستعمار و لازالت الأبحاث الأولى في اللسانيات و الاثنوغرافيا و الأثنروبولوجيا و السوسيولوجية ...تشكل النواة الأساسية في البحث العلمي حاليا. و لا يقل التوظيف السياسي لعلم الإحصاء خطورة عن سائر العلوم الأخرى ،وتاريخ عدة دول في العالم قديما و حديثا ،يبين كيف أن تحوير نتائج الإحصاءات قد يغير المعادلات السياسية و الاقتصادية و المواقع و الإصطفافات و الولاءات و الانتماءات و أدوار الفاعلين داخل المجتمع و توزيع الثروات و كيفية التعامل مع حقوق الطوائف و الإثنيات...بحيث أن المراهنة على توظيف و توجيه المعطيات التي تفرزها العملية الإحصائية ،في السياسة الداخلية و الخارجية للأمم ،ليست بالأمر الاعتباطي و لا بالعرضي ،بل أضحى الوعي بأهمية الإحصاء يدخل في صميم الأساليب التي ينبني عليها التخطيط الإستراتيجي و تدبير الملفات الحساسة بالنسبة للدوائر الرسمية و لإيديولوجيتها ،و بهذا نفهم خلفيات الصراع و الجدال الذي يخلقه عادة الإقدام على تنظيمه أو إعلان نتائجه.ففي تونس مثلا ،اتهمت الحكومة بانتداب أعوان ينتمون إلى حركة النهضة للإشراف على التعداد السكاني المزمع تنظيمه في أبريل المقبل ،خشية من أن يتم استغلال ذلك في توجيه اهتمامات أو توسيع الكتلة الانتخابية الموالية على حساب المعارضة ،وفي العراق و لبنان يظل دوما هاجس توظيف نتائج الإحصاء يراود مختلف الطوائف و المذاهب ،وهناك بعض الدول التي تتخذه وسيلة للتدخل في الشؤون الداخلية لبلدان أخرى ،كما تفعل إيران في البحرين ،أو اليونان التي نجحت ضغوطاتها على الحكومة الألبانية في إقحام معياري العرق و الدين في الإحصاء لكي تثير حقوق الأقلية اليونانية و بالتالي نهج سياسة التوسع داخل هذه الدولة. ويتضح إذن أن الإحصاء الذي تتوقف عليه عادة التنمية الاقتصادية و الثقافية و السياسة الديمغرافية ليس في غالب الأحيان إلا قناع اديولوجي تتوارى خلفه سياسات احتوائية يرتبط عمقها الإستراتيجي بالصراع الهوياتي و السياسي و استحقاق الحكم و نزع أو تثبيت الشرعية.و هي رهانات ظلت تلازم العقلية السياسية المغربية منذ الاستقلال بتناغم مع مشاريع أخرى كالتعريب الجذري و تثبيت أسس دولة قومية أحادية الانتماء ذات توجه عروبي. وقد يستشكل فهم ذلك على من يأخذ بظاهر الخطاب الرسمي الذي تحاول الدولة تسويقه و ترويجه عبر أدرعها النخبوية الموالية و المنظرة و في الإعلام ،القائم على عدم الاهتمام بالتمايزات العرقية و اللغوية و الثقافية والذي يصور المغرب المنسجم و المندمج و الذي توجته بتنصيص دستوري يحتمل كل القراءات ،و لكن في عمق اديولوجيته يتم تدبير إشكالية الهوية الوطنية و التعدد الثقافي و الانتماء بمقاربات مغايرة للظاهر معتمدة في ذلك على عدة مداخل أهمها توظيف الإحصاء ،كيف ذلك؟ بالعودة إلى التعدادات السكانية التي نظمها المغرب عبر تاريخه المعاصر ،نقف على خلاصات و استنتاجات تحرص الدولة على إبرازها و التأكيد عليها ،وترتبط بنسبة الكتلة الناطقة بالأمازيغية و بنسبة الكتلة التي تصطلح عليها بالعرب و هو ما يعني ضمنيا ترصدها و اهتمامها الدائم بالتحولات التي يشهد النسيج المجتمع المغربي ليس من المنطلق السوسيولوجي و الثقافي و الاقتصادي بل من منطلق حركية و اتجاهات و تمثلات الإنسان المغربي لهويته و علاقته بالانتماء الحضاري ،وهنا تطرح إشكالية مدى موضوعية المعايير المعتمدة و على خلفيات إقحام هذه المعايير أصلا إذا كانت الدولة تسهر على ضمان انسجام المجتمع المغربي و لامبالاتها بالتمايزات العرقية و اللغوية ،الأمر الذي يجرنا إلى مساءلة هذه المعايير من وجهة نظر علمية ما دام هناك إصرار رسمي على إقحامها في الاستمارات و في الخلاصات المحصل عليها. فهل يصح مثلا اعتبار كل الناطقين بالدارجة عربا علما أن لا وجود في المغرب لمن يتواصل باللغة العربية الفصحى في حياته اليومية و اعتبارا كذلك للنسبة الكبيرة للأمية المنتشرة في صفوف الناطقين بالدارجة ،هذا إن كان النظام الرسمي ينوي جعل اللغة محددا هوياتيا للتمييز بين المغاربة؟إنه سؤال موضوعي و آني و يحق لنا إعادة الإجابة عنه باعتباره أُدخِل في إطار المسلمات التي تشربها العقل المغربي و يتم استغلاله لإكمال مسلسل إقصاء الهوية الأمازيغية ،فنقاش علاقة الدارجة باللغة الأمازيغية و باللغة العربية هو نقاش لساني و سوسيولساني زج به في خدمة مشروع التعريب دون أن يخضع للحسم العلمي و الفكري بعيدا عن الحسابات الاديولوجية. ثم ألا يحق لنا اليوم ونحن بصدد تدبير التعدد في إطار وحدة الانتماء للأرض و الوطن و مقبلين على إحصاء شتنبر 2014 أن نتساءل عن خلفيات القائمين على الإحصاء في المغرب؟أليست هناك نوايا و هواجس جعل الأمازيغ أقلية كما يفهم من نتائج الإحصاءات السابقة و ما يستتبع ذلك من تعامل مع الحقوق الثقافية و اللغوية و الهوياتية و السياسية الأمازيغية...؟ألا يستشف من طريقة تعاطي الدولة مع الأمازيغية ما يثبت استغلالها للإحصاء من أجل كسب رهانات سياسية؟ ادريس رابح