تلقيت ردّ الأستاذ النقيب عبد الرحمن بن عمرو على تعقيب لي على مقاله المعنون ب "لماذا لا يمكن حاليا دسترة الأمازيغية كلغة رسمية"، وهو في عمومه تأكيد لنفس المعطيات التي سبق للأستاذ بنعمرو أن دافع عنها باستماتة وعناد المناضل الصّلب الذي لا يقبل الهزيمة، معتبرا إياها "معطيات موضوعية" في الوقت التي بدت لنا في بعضها أخطاء معرفية، وفي بعضها الآخر مواقف لا تليق بمناضل حقوقي كبير بذل الكثير من التضحيات في مواجهة الإستبداد، ومن أجل ترسيخ دولة القانون. وسوف نعود في مقالنا هذا إلى نفس القضايا التي سبق تطارحها في النقاش الدائر، والتي تتعلق أساسا بموضوع ترسيم اللغات المتعددة، وتهيئة اللغة الأمازيغية وإشكالية الوحدة الوطنية وعلاقة ترسيم الأمازيغية بحقوق الإنسان، مع إيراد بعض النصوص والوثائق وبعض البراهين الإضافية الدالة على عدم وجاهة ما ذهب إليه الأستاذ بنعمرو من مواقف، ليس بهدف إقناعه، إذ يبدو أن مشكلته لا تتعلق بالحقائق والوقائع أو بحقوق هذا الطرف أو ذاك، بل ترتبط أساسا بانتماء إيديولوجي أعلن عنه الأستاذ النقيب في بداية ردّه عندما تحدث عن عضويته في قيادة حزب الطليعة وعن اعتزازه ب"القومية العربية".
أعتقد أن الحقيقة الوحيدة التي صرّح بها السيد النقيب في مقاله هي هذه، وهي حقيقة ليست بحاجة إلى مناقشة لأن الحق في الإنتماء إلى التنظيمات والآراء والإختيارت الفكرية والإيديولوجية هو حق مبدئي، لكنه حقّ يحدّه مبدأ عدم المسّ بحقوق الغير. وهذا ما يكشف في هذا الموضوع بالذات عن حدود النقاش مع السيد بنعمرو، لأن المغرب حاليا يعيش نقاشا عموميا عميقا ينبغي أن يتعالى فوق الإنتماءات القومية من أجل ضمان الإستقرار والعدل والمساواة داخل الوطن، ولا أعتقد أن "القومية العربية" هي التي يمكن أن تضمن ذلك في مغرب اليوم، بل الذي يضمنه هو الوطنية المغربية الصادقة، والوعي العصري بحقوق المواطنة، أما "القومية العربية" فقد كانت مصدر شقاق ونزاعات لا حدّ لها، وهي اليوم تعيش آخر أنفاسها مع تهاوي ما تبقى من أنظمتها العسكرية القهرية: نظام القذافي السيء الذكر الذي ما زال يذبح شعبه يوميا، ونظام البعث السوري المخابراتي الذي يمعن بدوره في تقتيل أبناء سوريا، والذي أعلن بعد 52 سنة من الإستبداد الأسود، أنه على استعداد للتفكير في "تسوية وضعية الأكراد" ومنحهم أخيرا، ويا للسخرية ! بطاقة الجنسية والإنتماء إلى وطنهم.
استهل الأستاذ بنعمرو مقاله بالردّ على تسميتي للرافضين لترسيم الأمازيغية ب"التعريبيين"، معتبرا نفسه لا ينتمي إليهم بل ينتمي إلى "المغربيين"، وهو جواب كان يمكن أن يكون موضوع اتفاق لولا أن ارتكب الأستاذ النقيب خطئين فادحين في تفسير معنى "المغربيين" بالقول إنهم "الذين يجمعهم تاريخ واحد ودين واحد وحضارة واحدة هي الحضارة "العربية الإسلامية"، ومشاكل واحدة ومستقبل واحد، وتم، منذ الفتح الإسلامي، وعبر الزواج المختلط إنتاج النسل المغربي، الذي لا يحق لأي فرد من أفراده الإدعاء بأنه أمازيغي خالص أو عربي خالص"، و مكمن الخطإ في قوله هذا هو: أولا: اختزاله للحضارة المغربية المتعددة المكونات التي تجمع المغاربة كافة، في الإطار "العربي الإسلامي"، مما يعني إقصاؤه للأمازيغية التي طبعت الحضارة المغربية عبر آلاف السنين بطابعها المميز والخصوصي، وهذا من تبعات الخطاب القومي العربي الذي لا ينظر إلا إلى العناصر التي تجمعنا مع الشرق على أنها عناصر "موحِّدة"، معتبرا الخصوصية المغربية أو "الإختلافات القطرية" كما يسمّيها القوميون عنصر"تفرقة"، لكننا نعتقد بأن تدبير البيت الداخلي للمغرب، هو بحاجة إلى وعي وطني يجعل كل العناصر المكونة للذات المغربية هي عناصر مشتركة تجمع بين المغاربة، وفي هذا المستوى يعتبر منظور الأستاذ بنعمرو مجانبا للصواب ولا يصلح لأن نبني عليه مشروعنا المغربي الديمقراطي المستقبلي. وأعتقد أن الدستور القادم سيحسم لا محالة بشكل نهائي في هذا الموضوع، بدسترة أبعاد الهوية المغربية وفي صدارتها الأمازيغية، وبذلك سيصبح المفهوم القومي العربي للهوية وكذا مفهوم الحركة الوطنية المغربية لها متقادما ومتجاوزا، إذ سينتقل المغاربة من أحادية الهوية إلى المنظور التعدّدي الديمقراطي.
2) والخطأ الثاني هو إقحامه لموضوع التمازج العرقي بين المغاربة وهو بصدد الحديث عن اللغة الأمازيغية دون أن يكون ثمة موجب لذلك، فالأمازيغية في المغرب ليست قضية عرقية أو مشكلة أصول خالصة لهذه الفئة أو تلك، ولم تكن قط كذلك في يوم من الأيام، كما أنّ المغرب شعب موحّد في السياق الراهن ووحدته مكسب لا رجعة فيه، لكنه يعاني من انعدام التوازن في سياساته العمومية في إقرار مكوناته الثقافية وممتلكاته الرمزية المتعددة التي هي ملك لجميع أفراده، فلا أحد يطالب بالتمييز بين العربي القحّ والأمازيغي الخالص في المغرب ليس فقط لأن هذا مستحيل بل لأنه أمر لا أهمية له على الإطلاق، ولكن المطلوب اليوم ترسيم اللغة الأمازيغية في الدستور لحمايتها و ضمان إشعاعها، وهذا لا يحتاج إلى العودة إلى شجرات الأنساب والأصول والأعراق الخرافية. ذكر الأستاذ بنعمرو أن الكثير من الدول الشرقية كسوريا و العراق ولبنان واليمن "تنتمي في الأصل إلى حضارات كبيرة خلفت وراءها معالم فكرية ومادية لا زالت شاهدة على مستواها العالي حتى الآن، سواء على مستوى الآثار أو التأليف أو الكتابة بأحرف غير عربية، ومع ذلك لا يوجد، لغاية تاريخه أية منظمة في العالم العربي تطالب بإحياء حضارتها المنتهية وترسيمها واستعمالها، بحروفها الأصلية، في مختلف المرافق العمومية". وقد جانب الأستاذ بنعمرو في قوله هذا الصواب في أمرين: الأول في قوله أنه لا يوجد من يدعو إلى بعث لغات وثقافات قديمة وترسيمها واستعمالها بالدول التي ذكرها وهذا غير صحيح، ففي دول الشرق الأوسط توجد العديد من اللغات والثقافات والحضارات والديانات القديمة، التي مازالت موضوع مطالب سياسية ومدنية، ترفعها منظمات بعضها علني وبعضها محظور بسبب الإستبداد والقهر السياسيين لأنظمة ترفض الإختلافات وتغطي عليها بالقمع الوحشي.
والأمر الثاني الذي لم يوفق الأستاذ بنعمرو فيما قدمه حوله من معطيات، هو عدم تمييزه بين اللغة الحية والثقافة الحاضرة بقوة في المجتمع، وبين اللغات والثقافات التي انقرضت بصفة نهائية، فالأمازيغية لا يمكن موضوعيا مقارنتها بالحضارات المنقرضة كالفرعونية أو والكنعانية أو السبئية أو الحميرية، ولا باللغات والثقافات المطموسة والمحدودة التداول، لسبب لا ينكره عاقل وهو أن هذه اللغات قد توقفت عن الإستعمال منذ قرون طويلة، بينما مازالت الأمازيغية حية غنية ومنتجة وحاضرة بكثافة في المجتمع وفي وعي الناس وأنماط عيشهم، بل إن المغرب هو عاصمة الأمازيغية في العالم كله، إذ لا يوجد بلد توجد به بهذا القدر من الكثافة في السكان والزخم في الإنتاج الثقافي، فالمطالبة بدسترة الأمازيغية هو تعبير عن حاجة اجتماعية وسياسية في المغرب، وعن مشكل حقيقي وليس أمرا مصطنعا، ولكي يقتنع الأستاذ بنعمرو بما نقول نقدم له الدليل القاطع التالي: ألم يتمّ ترسيم الكردية في الدستور العراقي بجانب العربية ؟ فلماذا لم تعتبر الكردية التي هي من اللغات العريقة لغة منقرضة كالسومرية والكنعانية وغيرها، أليس لأن الكردية لغة حية يتم التواصل بها بكثافة حتى يومنا هذا كالأمازيغية تماما في المغرب ؟ يبدو إذن أن الأستاذ النقيب لا يميز بين اللغات المنقرضة والتي لم يعد ممكنا تداولها أو اللغات المطموسة والتي تمّ إضعافها بشكل كبير في ظل استبداد الأنظمة العسكرية القومية، وبين اللغات الحية التي ما زالت لغات تخاطب يومي وإبداع وتواصل وكتابة حتى اليوم، بفضل تجذرها الكبير رغم التهميش، فحجته في هذا الباب مثل حججه السابقة ظاهرة البطلان .
وقد سقط الأستاذ بنعمرو في فخ فكرة طالما ردّدها القوميون المتطرفون من أجل طمس هويات الشعوب، وكنا نربأ به أن يسقط في مثل تلك المعتقدات الإيديولوجية المضحكة، وهي فكرة "العرب العاربة" و"العرب المستعربة"، والتي تنكر وجود غير العرب من الشعوب الأخرى في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهي فكرة مضحكة لأن مصدرها معادلة غير منطقية لا يقبلها عقل سليم، يمكن كتابتها على الشكل التالي: عربي زائد عجمي يساوي عربي / عجمي زائد عربي يساوي عربي، أي بلغة الأرقام 1 + 2 = 1 / أو 2 + 1 = 1 ، فالعرب عنصر غير قابل للذوبان، لا عرقيا ولا ثقافيا، والشعوب الأخرى وإن كانت أصولها غير عربية فهي عربية باللغة والثقافة كما لو أنها ليست لها ثقافاتها الخاصة، بينما يقتضي المنطق العلمي السليم القول إن التمازج بين العناصر المختلفة تعني أن الناتج عنها تركيب لها جميعا، أي عنصر جديد تركيبي هو المغربي و العراقي والسوري والليبي، ففي كل هذه البلدان تمازجت الأقوام والثقافات والحضارات بشكل كبير، وليست العروبة أو العربية إلا مكونا بجانب مكونات أخرى، وهو ما يعني أن الهوية إشكال عميق لابدّ فيه من الأخذ بعين الإعتبار من الناحية العلمية أشكال التثاقف والتفاعل العميق بين المكونات، ومن الناحية السياسية احترامها داخل المؤسسات وعلى رأسها الدستور، ونقصد ها هنا المكونات الرئيسية الكبرى التي تعبّر عن نفسها في المجتمع وتعكس في مطالبها حاجة اجتماعية حقيقية لا سبيل إلى تجاهلها. وقد اعتمد الأستاذ بنعمرو لإنكار حق الأمازيغية في الترسيم دليلا اعتبره "قانونيا" في قوله "إن ترسيم لغة من اللغات يترتب عليه قانونا وجوب استعمالها في جميع مرافق الدولة وإدارتها ومؤسساتها العمومية والشبه العمومية"، و هذا أمر لا ينطبق على جميع الحالات التي درسناها، فالأستاذ بنعمرو لم يقدّم للقراء كل المعطيات في هذا الشأن ، إذ تبيّن من خلال دساتير العالم أنها لم ترسم اللغات المتعددة في البداية من أجل أن تستعمل على الفور غداة الترسيم، كما أنها لا ترسّم كل اللغات من أجل أن تمارس جميع الوظائف داخل المؤسسات بنفس الشكل، فهذا خطأ بيّن تكذبه التجارب المتعارف عليها، والأستاذ بنعمرو يهدف من ورائه إلى التعجيز والتخويف، وقد أعطينا نموذجا راقيا من دستور جنوب إفريقيا الذي رسّم عشر لغات بجانب الإنجليزية وأضاف فقرة تبين كيفيات ومراحل التنفيذ وشروطه وحدوده، لأن لا أحد يمكنه أن يزعم بأن تلك اللغات العشر هي في مستوى اللغة الإنجليزية من حيث رصيدها الوظيفي داخل المؤسسات، وهذا ما تنبهت إليه أحزاب مغربية في مذكراتها مثل الحزب الإشتركي الموحد الذي نصّ في مقترحه على ما يلي:"تُعتبر اللغة الأمازيغية أيضًا لغة رسمية. تلتزم الدولة بتوفير الشروط التنظيمية والعلمية والمادية والبشرية لتفعيل هذا المقتضى. ويُخَوَّلُ مجلس النواب بواسطة قوانين صلاحية تحديد مجالات هذا التفعيل ودرجاته ومستواه حسب الإمكانات المُتاحة في كل مرحلة". وفي مذكرة حزب التقدم والإشتراكية ورد ما يلي: "العربية والأمازيغية لغتان رسميتان، وتعمل الدولة على إيجاد الصيغ الانتقالية الكفيلة ببلورة الطابع الرسمي للغة الأمازيغية، وتضمن التنوع الثقافي في تعابيره الجهوية وتعمل على إثرائه وتطويره." كما أكد حزب الحركة الشعبية على نفس الشيء في مذكرته بدعوته إلى: "تخصيص فصل للغات الرسمية يتم التنصيص فيه على اعتبار العربية والأمازيغية لغتين رسميتين للبلاد مع التأكيد على ضرورة وضع قانون تنظيمي يقنن مجالات الاستعمال الرسمي لكلتي اللغتين وآليات الإرتقاء بهما بنيويا ووظيفيا". ولسنا بحاجة إلى الردّ على ما قاله الأستاذ بنعمرو من أنّ هذه الأحزاب وغيرها من التي دعت إلى الترسيم تمارس نوعا من المزايدة الإنتخابوية، فهذا الكلام لا يصحّ في الظرف الراهن الذي ينبغي أن يتحمل فيه كل واحد مسؤوليته التاريخية.
وقد أشار إلى ذلك باحثون وسياسيون لا ينتمون إلى الحركة الأمازيغية ولكنهم تحلوا بقدر من النزاهة الفكرية والسياسية، ومنهم الدكتور سعد الدين العثماني والدكتور نادر المومني اللذين قاما بدراسة لعدد هام من دساتير العالم. وفي معرض حديثه عن مطلب المساواة في القيمة المبدئية والترسيم بين العربية والأمازيغية، انتقد الأستاذ بنعمرو هذا الرأي معتبرا أنه"كما يقول الفقهاء لا قياس مع وجود اختلاف، وكذلك لا مساواة مع وجود اختلاف في الشروط والوضعيات مع الأشياء المراد المساواة بينها" وهذا خطأ آخر فادح لأن الشعوب لو اعتمدت هذه القاعدة لما كانت هناك مساواة أصلا ولا تطور، لأن الشيئين غير المتساويين لا يكونان أبدا على وضعية واحدة بل في حالة تفاوت، والمطلوب المساواة بينهما أي تغيير وضعية أحدهما لكي يساوي الآخر، ولهذا تتطور وضعية الشعوب والإنسان من حالة سيئة إلى حالة أفضل، فالمناضلون الحقوقيون عبر العالم يعتبرون أن القاعدة الأساسية لتحقيق المساواة هي الرفع من مستوى العنصر الذي يعاني من وضعية دونية لتأهيله ليتساوى مع غيره من الذي توفرت له حظوظ النماء والتطور من قبل، وهذه هي القاعدة المتعارف عليها في الأوساط الحقوقية في العالم أجمع، ومن الغريب القول إنه لا مساواة بين شيئين متساويين كما لو أنهما وجدا في الأصل متفاوتين، والحقيقة أن تفاوتهما هو نتاج سياسة انتهجتها الدولة وليس وضعا طبيعيا. فلنتصور أن الدولة المغربية لم ترسم العربية في الدستور عام 62 و لم تدرجها في التعليم، كيف ستكون وضعيتها الآن بالمغرب؟ وكم عدد الناس الذين سيعرفونها ويتداولونها ؟ وينتقد الأستاذ بنعمرو دعاة ترسيم الامازيغية من الأحزاب السياسية و المنظماات المدنية المغربية قائلا:"هناك تساؤل عريض ومبرر موجه إلى أصحاب هذا الطلب وهو: لماذا لا يكونون منسجمين مع مطلبهم فيبدؤون بأنفسهم وذلك باستعمال الأمازيغية في أنشطتهم ومناقشاتهم وتحرير محاضر اجتماعاتهم وفي أبحاثهم وكتاباتهم ومقرراتهم وفي التواصل فيما بينهم وبين الشعب. إنهم يكتفون، على مستوى الممارسة، بكتابة سطر أو سطرين بحروف تيفيناغ في مطبوعاتهم أو لافتاتهم".
وهذا شرط تعجيزي غير معقول ولا مقبول، لأن هؤلاء لو كانوا يتقنون الأمازيغية عبر المدرسة مثل العربية والفرنسية ليكتبوا بها تقاريرهم ويعقدوا اجتماعاتهم وكان الأمر كذلك بالنسبة للجميع لما كان مشكل الأمازيغية مطروحا أصلا، فسبب المطالبة بالترسيم هو قبل كل شيء توفير ضمانات إنجاح تعليم الأمازيغية ومأسستها واستعمالها، وهو أمر لم يتحقق بعد. فليس حجة على المطالبين بالترسيم أنهم لا يعرفون الأمازيغية، إذ هم ضحايا سياسة غير عادلة انتهجتها الدولة منذ الإستقلال. هذا علاوة على أن هناك أحزاب سياسية ترجمت قوانينها الأساسية إلى الأمازيغية وأخرى كتبت بها على واجهات مقراتها، وهو أمر نعتبره إيجابيا من باب التشجيع والدعم المعنوي.
وقد سبق لي في تعقيبي على الأستاذ بنعمرو أن أشرت إلى أنّ جميع الذين كتبوا ينتقدون مطلب ترسيم الأمازيغية و يعارضونه هم من المختصين في اللسانيات العربية أو الأدب العربي، وليس فيهم من له إلمام بالأمازيغية ولا بما أنجر فيها من أعمال في التقعيد والمعيرة اللغوية أو في مجالات الأدب والفن وغير ذلك، ولم يقدموا أية أدلة من داخل ما أنجز يدلّ على صواب رأيهم القائل بعدم جاهزية الأمازيغية للترسيم في الدستور المغربي، ردّ الأستاذ بنعمرو على هذا الإنتقاد الموضوعي بتقديم دليل عجيب غريب هو "الإستئناس" برأي الدكتور عثمان سعدي قائلا " فإذا جاز لنا الاستئناس بما كتب عن الأمازيغية من حيث وضعيتها ومنابعها وحجم المتكلمين بها فيمكن الاستئناس بما كتبه ويكتبه السيد سعدي عثمان" ، ومن هو هذا الرجل يا ترى ؟ إنه رئيس جمعية الدفاع عن اللغة العربية بالجزائر (كذا!!؟)، ولعلم القراء فالسيد عثمان سعدي هو من القوميين العرب الأكثر تطرفا في الجزائر، ندر حياته لمقاومة الأمازيغية هوية ولغة وثقافة باعتبارها مجرد "لهجات عربية قديمة"، يتكلمها "عرب قدامى" جاؤوا إلى شمال إفريقيا في هجرات قديمة، وهو مع الدكتور علي فهمي خشيم بليبيا ومحمد العرباوي بتونس والمرحوم محمد عابد الجابري بالمغرب كانوا يشكلون رباعيا قوميا خارج التاريخ في موضوع الأمازيغية والتنوع اللغوي الذي كانوا يعتبرونه خطرا على هذه البلدان، ويدعون بدون تحفظ إلى تسريع وتيرة التعريب للقضاء على واقع التنوع الذي يتنافى مع مبدإ الوحدة العربية من المحيط إلى الخليج إلخ إلخ .. وقد انهزم هؤلاء في كل معاركهم ضد الأمازيغية في شمال إفريقيا حيث انتزعت هذه الأخيرة الكثير من المكاسب في الوقت الذي كانوا يسبحون فيه ضد تيار الحقوق الثقافية واللغوية، بعد أن تهاوت الشعارات القومية كلها تحت تطورات الأحداث الطبيعية التي أفضت إلى مزيد من الإعتراف بعناصر التنوع الثقافي، بل إن الدول المغاربية مع الثورات الأخيرة مرشحة جميعها إلى مراجعة دساتيرها فيما يخصّ موضوع اللغات والثقافات ودسترها. والواقع أن الأستاذ بنعمرو باعتماده "مرجعا" كهذا وقع في منزلق كبير أدى إلى خلل منهجي في مقالته، حيث انساق في متاهة لا نهاية لها بإيراد أخبار متقادمة تعود إلى ما كتبه عثمان سعدي في حربه ضد الأمازيغية وما زال يكرره حتى الآن رغم كل التحولات، في حين كان على الأستاذ بعمرو أن ينتبه إلى أن الأمازيغية في الظرف الراهن شأن مغربي قبل كل شيء، وأننا نخوض في نقاش دستوري مغربي مغربي، و أنّ المغرب يعيش دينامية ربما ما زالت الجزائر بعيدة عنها، وأن المطلوب هو البتّ في التفاصيل المتعلقة بتهيئة الأمازيغية بالمغرب، وهو موضوع اشتغال مؤسسة عمومية منذ عشر سنوات وهي المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ، والتي تضمّ فرق بحث متخصصة في اللسانيات والبيداغوجيا وديداكتيك اللغة الأمازيغية، ومؤسسة عمومية أخرى هي وزارة التربية الوطنية، ولا أذكر أنّ أحدا من الذين يخوضون حاليا في هذا النقاش قد طالبوا مقابلة هؤلاء المختصّين أو اتصلوا بالمؤسستين المعنيتين من أجل طلب ملفات أو كتب أو دراسات أو إحصائيات أو تقارير من أي نوع، فهل يمكن في ظل غياب تام للمعطيات الميدانية أن نلجأ إلى شخص أجنبي لا علم له بما تحقق في بلدنا من إنجازات ؟ وقد عاتب الأستاذ بنعمرو الفاعلين الأمازيغيين على عدم انشغالهم بوضعية اللغة العربية المحتقرة بدورها أمام اللغة الأجنبية الفرنسية، وقد أخطأ في ذلك لأننا غير ما مرة أعلنا خلال النقاش الدائر بأننا مع مطالب العربية في الدستور والمتمثلة في تقوية دور اللغة العربية وتمتيعها بالقوانين التنظيمية من أجل أجرأة رسميتها في كل المجالات، ولكننا ندعو إلى ذلك مع ترسيم الأمازيغية بجانبها، ونرفض أن تكون العربية اللغة الوحيدة للدولة، أي أننا نرفض "التعريب المطلق"، ولا يعني هذا في أي حال من الأحوال معاداة العربية على الإطلاق، وقد نبهنا أكثر من مرّة إلى أن نقد القومية العربية أو دعاة التعريب المطلق لا يعني نقد اللغة العربية أو معاداتها، لأن العربية لغة وليست إيديولوجيا لغوية، كما أن نقد التطرف الديني لا يعني نقد الدين ومعاداته. فالتمييز بين الأديان واللغات والثقافات وبين الإيديولوجيات أمر ضروري. وهذا خلافا للذين يتصدون لترسيم الأمازيغية فهم لا ينتقدون مواقف أو أفكارا أو إيديولوجيات فقط، بل يرفضون مبدأ ترسيم اللغة الأمازيغية بجانب العربية من أساسه ويتحدثون عنها باحتقار ظاهر، وهو أمر يهدف إلى حرمان لغة من حقها في البقاء والتوظيف والإستخدام وهذا أمر لا نقوم به مطلقا بالنسبة للعربية. وأذكّر بأن الوثائق الرئيسية للحركة الأمازيغية المتعلقة بالدسترة تتضمّن الدعوة إلى ترسيم الأمازيغية بجانب العربية وليس على حسابها، وقد أوردنا النصوص المتعلقة بذلك أكثر من مرّة. فإذا كان الفاعلون الأمازيغيون لا يعتبرون لغتهم الأصلية بديلا للعربية، فإن دعاة التعريب الإيديولوجي الذين ننتقدهم يعتبرون العربية "لغة وحيدة" للدولة ولا حاجة إلى لغة أخرى بجانبها، فالطرف المخطئ ظاهر للعيان وتوضيح الواضحات من المفضحات. في معرض نقده لفكرتنا عن "التعريب" الإيديولوجي الذي نرفضه، أورد الأستاذ بنعمرو ما يلي: "كلمة "التعريب" لا تعني سوى استعمال العربية الفصحى في المرافق والمؤسسات العمومية ولا تعني فرض التكلم بالعربية الفصحى على المغاربة"، والحال أننا لم نقل قط إن رفضنا للتعريب هو بسبب منع المغاربة من التكلم بلغتهم في الحياة اليومية، وإنما المقصود بحديثنا هو التكلم داخل المؤسسات، والذي كان ممنوعا فيها منعا باتا التكلم بغير العربية (بلهجاتها) أو الفرنسية، وهي عنصرية رسمية سياسية ارتبطت بنهج الدولة في تدبيرها لهذا الموضوع منذ الإستقلال، ويمكن لتوضيح ذلك التذكير بأن إنتاج برامج ناطقة بالأمازيغية في التلفزيون لم يتقرر إلا سنة 2006، أي بعد خمسين سنة من الإستقلال، وما زال موضوع عرقلة حتى الآن، وقد كان ممنوعا كليا من قبل، وكان يفرض التكلم عن الثقافة الأمازيغية بالعربية أو الفرنسية، وعندما حاول الدكتور عمر أمرير إنتاج أول برنامج ناطق بالأمازيغية سنة 1979 وكان يسمى "تيفاوين"، تمّ منعه بالهاتف أثناء بث الحلقة الأولى، وهل يعرف الأستاذ بنعمرو كيف كانت شروط المسؤولين لقبول عودة البرنامج ؟ الشرط الأول أن يحمل إسما عربيا، والثاني أن لا يتكلم فيه أحد بغير العربية الفصحى، وقد عاد الدكتور عمر أمرير إلى إنتاج برنامجه بعد عامين من المنع، وقام بتغيير الإسم فصار البرنامج يحمل إسم "كنوز"، وأصبح يتكلم فيه بالعربية الفصيحة عن فن الروايس والشعر والأدب الأمازيغيين الشفويين، أي عن فنانين وشعراء لا يعرفون أصلا ما يقوله مقدم البرنامج عنهم. كما كان ممنوعا التكلم بالأمازيغية في المحاكم، وفي أحسن الأحوال كان يؤتى بأي شخص للقيام بترجمة ارتجالية، كما لو أن الناطق بالأمازيغية أجنبي في بلده، حيث لا تخصّص المحاكم مترجمين محترفين ضمانا لشروط المحاكمة العادلة، ويفرض على المواطنين التكلم بالعربية (أو لهجاتها) بينما يسمح للأجانب أن يتكلموا بلغتهم ويُخصّص لهم مترجمون. ولا تقوم الدولة بتكوين مسؤوليها الأمنيين أو القضاة أو الموظفين الإداريين الذين يعيّنون في مناطق الساكنة الأمازيغوفونية في اللغة الأمازيغية، رغم أن الإستعمار كان يفعل ذلك، مما يجعل المواطنين مضطرّين إلى اجتياز محنة اللقاء بالمؤسسات الرسمية. كما كانت الدولة تمنع تسجيل أسماء المواليد في مكاتب الحالة المدنية، ورغم تدخل منظمات دولية مثل هيومن رايتس واتش في الموضوع فقد استمرت هذه الظاهرة سواء داخل المغرب أو خارجه في القنصليات والسفارات المغربية. وقامت السلطة بطمس العديد من أسماء الأماكن سواء بتعريبها أو بتحريفها في العلامات، ومنعت وما تزال الكتابة بالأمازيغية في الواجهات رغم أنها تستعمل العربية والفرنسية. كل هذا الذي ذكرناه هو من مظاهر التعريب الإيديولوجي الذي رفضناه بقوة وما نزال، إذ القصد منه ليس خدمة العربية بل محو الأمازيغية. فنحن إذن لا نرفض التعريب بمعنى استعمال العربية، ولكننا لا نعتبرها اللغة الوحيدة للمغاربة كما تحاول الدولة أن تفرض علينا عبر مؤسساتها.
وقد أنكر الأستاذ بنعمرو الكثير من هذه الخروقات واعتبرها مجرد "مغالطات"، بينما نجدها مسجلة في تقارير كبريات المنظمات الحقوقية المغربية كالجمعية المغربية لحقوق الإنسان والمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، وفي تقارير المنظمات الدولية ولجان الأممالمتحدة والإتحاد الأوروبي. وقد انتقد الأستاذ بنعمرو رفضنا لكلمة "العروبة" قائلا إنها: "لا تعني محو اللهجات المتحدث بها في منطقة كبيرة تمتد من المحيط إلى الخليج، وإنما تعني فقط أن هذه المنطقة يجمعها أكثر من سبب يدعوها إلى التعاون الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في أفق تحقيق الوحدة السياسية"، واعتبر أن الوحدة السياسية المقصودة شبيهة بوحدة الإتحاد الأوروبي. والمشكل ها هنا هو أن الإعتقاد في "عروبة" هذه الرقعة الجغرافية المتحدث عنها باعتبارها "وطنا عربيا" والنظر فقط إلى ما تشترك فيه من لغة وثقافة عربيتين، معناه إقامة وحدة بين عرب هذه البلدان على حساب المكونات الإثنية واللغوية والثقافية الأخرى، لأن خصوصيات البلدان أمر لا يمكن تجاوزه على الإطلاق، وإسهام هذه القوميات في العربية والإسلام لا يعني تخليها عن هوياتها وثقافاتها الأصلية كما يفهم العروبيون، كما لا يحق لقومية معينة أن تنصّب نفسها وثقافتها كعنصر توحيد، وتجعل الباقي "مؤامرات" مهددة للوحدة، فهذا أمر مناف للديمقراطية. أما التعاون الإقتصادي والثقافي بين هذه البلدان فهو لا يقتضي إنكار وجود الإختلافات، بل ينبغي للتعاون أن يتمّ على أساس التبادل والتثاقف وليس التجانس، فالإتحاد الأوروبي لا يقوم على أساس أن هوية بلدان أوروبا ولغاتها واحدة، بل على أساس المصالح والإحترام المتبادل. ونحن لا ندعو إلى مقاطعة بلدان الشرق الأوسط، ولكننا نطالب بأن تكون العلاقات معها مبنية ليس على اعتبارات عرقية أو لغوية أو دينية بل على أساس تبادل عقلاني يضمن مصالح بلادنا، دون أن ينتج عن ذلك ضرر بمكون من مكونات شخصيتنا الوطنية.
وقد فسر الأستاذ بنعمرو ترسيم البلدان المسماة عربية في دساتيرها للغة العربية الفصحى "دون اللهجات المحلية وما أكثرها" أمرا إيجابيا ينبغي الإقتداء به، بينما الحقيقة أن ذلك تمّ في إطار الإقصاء والإستبداد السياسي لأنظمة عسكرية أو إمارات عشائرية لا تتوفر على مواصفات الدول العصرية، فالدول المسماة عربية ليست نماذج يُقتدى بها خاصة في هذه الظرفية التي تتهاوى فيها أنظمة الإستبداد الواحد تلو الآخر، ويكفي دليلا على ما نقول أنه بمجرد أن يسقط الإستبداد يعاد الإعتبار لكل العناصر المغيبة بالقمع والتهميش والحصار، ففي العراق بمجرد سقوط الدكتاتور الدموي صدام حسين عرفت البلاد أول دستور ديمقراطي يعترف بكل المكونات، ولا شك أنها ستنال نفس الإعتراف في سوريا بعد سقوط البعث السوري، وستصبح الأمازيغية رسمية في ليبيا بعد أن ينفض التاريخ يده من القذافي وعائلته. ولكي يبرهن الأستاذ بنعمرو على عدم أحقية اللغة الأمازيغية في الترسيم، استعمل حجتين اثنتين: أن اللغة الأمازيغية المراد ترسيمها لغة "مختبرية" مصطنعة لا يعرفها الناس. أن اللغة العربية الفصحى تعرفها فئات واسعة من المغاربة بمن فيهم الناطقون بالأمازيغية. وهما في الواقع حجتان ضد الأستاذ النقيب لأنهما تؤكدان على أنّ مأسسة لغة ما هو السبيل الوحيد للحفاظ عليها، فمن الذي جعل العربية الفصحى معروفة اليوم لدى فئات واسعة، وكم عدد المغاربة الذين كانوا يعرفونها سنة 1956 ؟ وما الذي جعل الأمازيغية المعيار لا يعرفها أحد ؟ وما الذي جعل "اللهجات" الأمازيغية نفسها تنمحي من المجتمع بسرعة كبيرة في العقود الأخيرة ؟
وبالمقابل ما الذي سيجعل اللغة الأمازيغية المعيار معروفة لدى الأجيال المقبلة من المغاربة ؟ أليس هو إنجاح تعليمها ؟ ولماذا لم ينجح تعليمها منذ 2003 ؟ أليس لأن التجربة اصطدمت قبل كل شيء بغياب الترسانة القانونية التي من شأنها أن تحقق الحماية المطلوبة وضمانات النجاح لمشروع كهذا، الذي ظلّ يلاقي أشكالا من المقاومة بسبب العقليات القديمة والإيديولوجيات التي كانت السلطة وبعض الأحزاب تنشرها من قبل ؟ ولماذا يطالب الأستاذ بنعمرو وكل المدافعين عن العربية بتوفير القوانين التنظيمية الملزمة التي من شأنها ضمان أجرأة رسمية العربية في عدد من القطاعات، أليس بسبب شعورهم بأن العربية رغم رسميتها و تعليمها ما زالت تعاني من تهميش في بعض المجالات ؟ وما معنى أن اللغة الأمازيغية لغة "مختبرية"، هل العربية المعيارية لغة شعبية يتحدث بها الناس داخل بيوتهم ومع أطفالهم ؟ إن عدم إلمام الكثير من المتدخلين في هذا النقاش بمنهجية توحيد اللغة الأمازيغية التي تمّ اعتمادها، وعدم اطلاعهم على الكتب المدرسية المقررة، وعدم معرفتهم بنسبة المشترك ومقدار الإختلافات الموجودة بين اللهجات، وعدم حضورهم في اللقاءات العلمية التي تجمع أهل الإختصاص في اللسانيات والبيداغوجيا الأمازيغية، والتي كانت دائما لقاءات إشعاعية مفتوحة للعموم، هي كلها أسباب سوء الفهم في هذا الموضوع، فاللغة الأمازيغية المقعّدة والمنمّطة ليست لغة تمّ اختراعها بمعزل تام عن اللهجات، بل هي جُماع تلك اللهجات التي تمّ التقريب فيما بينها بالتدريج، ففي السنة الأولى يتعلم التلميذ إحدى اللهجات الثلاث، وفي كل سنة يتمّ تقريبه نحو اللهجتين الأخريين بخطوات بيداغوجية لا تعزل الطفل بشكل كلي عن اللغة اليومية، بذلك يجد الطفل نفسه ملما باللغة المعيار من خلال لهجاتها نفسها، فإذا كان الناطق بالسوسية أو الأطلسية يسمي الأسد "إزم" ، فإنّ التلميذ يسمّي الأسد "إزم" كما يسميه أيضا "أيراد"، وهي المفردة المستعملة في تاريفيت شمال المغرب. وتجذر الإشارة إلى أنّ نسبة كبيرة من العناصر موحّدة أصلا، كما أن نسبة هامة من الكلمات الحديثة هي عبارة عن إبداع معجمي يتساوى في عدم معرفتها الناطق وغير الناطق بالأمازيغية، وهي مثل الكلمات العربية المستحدثة في الخطاب العلمي أو القانوني أو السياسي والتي لا يعرفها الكثير من الناس إلا بالتدريج وبفضل الإستعمال اليومي في مجالات التعليم والإعلام والإشعاع الثقافي والعمل الأكاديمي.
فاللغة الأمازيغية المعيار مثل العربية الفصحى لا يولد الناس وهم يعرفونها، بل مكان تعلمها هو المدرسة، وهي الضامن للحفاظ على اللهجات لأنها تغذيها وتغنيها بشكل كبير، كما أغنت العربية المعيارية الدارجة مثلا، وبدون لغة المدرسة ستنتهي اللهجات إلى الإندثار. وقد فوجئت بأفكار عبّر عنها الأستاذ بنعمرو جعلتني أتساءل إن كان يعيش معنا في المغرب ويتقاسم معنا همومنا بصفتنا مواطنين له أم لا، كأن يقول "إذا كان فهم اللغة الأمازيغية المنمطة يتطلب زمنا ومجهودا لفهمها من قبل المواطنين، فلماذا، يا ترى لا يصرف هذا الزمن والجهد في تعلم اللغة العربية الفصحى ؟". والجواب الذي لسنا بحاجة إلى التذكير به هو أن الأمازيغية ليست مجرد لغة وظيفية يمكننا التعامل معها بلا مبالاة، بل هي أيضا تعبير عن هوية وعن انتماء، إنها شديدة الإرتباط بالوجود والكيان الذاتي، أقول هذا ولست بحاجة إلى قوله، ما دمتُ أتوجه إلى مواطن يقول إنه يعتزّ ب"قوميته العربية"، وتربطه باللغة العربية عواطف انتماء قوية نحترمها. إن أسوأ مظاهر العنصرية هي التمركز حول الذات بإفراط، واعتبار الآخر المختلف مجرد حالة منحرفة . ولم يوفق الأستاذ بنعمرو في الردّ على نقدنا لفكرة "الكلفة المادية" التي يتذرع بها من يعارضون ترسيم الأمازيغية، حيث أشار إلى أن الضرائب يؤديها جميع المغاربة، وهو يقصد أن المغاربة أيضا من غير الناطقين بالأمازيغية يدفعون تلك الضرائب، ولكنه نسي بأن المواطنين الناطقين بالعربية إن كانوا يؤدون ضرائب فإنهم يتلقون مقابل ذلك خدمات بلغتهم العربية، بينما الناطقون بالأمازيغية يدفعون نفس الضرائب مع غيرهم دون أن يتم الحفاظ على ثقافتهم ولغتهم على نفس المستوى الذي يتمّ به الحفاظ على العربية وتقديم الخدمات لأهلها. فإذا كنا جميعا مواطنين في دولة إسمها المغرب فإن معنى المساواة ليست في استعمال العربية وحدها مع الجميع، بل هي احترام اللغتين المغربيتين العربية والأمازيغية، بدءا من القانون الأسمى للدولة وانتهاء بكل المجالات الأخرى. وإذا قال الأستاذ بنعمرو إن العربية هي لغة جميع المغاربة فإن الأمازيغية أيضا كما يقال اليوم في كل مكان بالمغرب، سواء في الخطاب الرسمي أو الحزبي أو المدني، هي لغة ل" جميع المغاربة بدون استثناء" و "إرث مشترك" و"مسؤولية وطنية" إلخ..ولست أدري كيف غاب عنه ذلك بعد أن صار أمرا بديهيا.
إنّ للأمازيغية دَيْن في أعناق كل المغاربة لأزيد من خمسين سنة، وعليهم الوفاء به اليوم مع الإعتراف بالجميل لإحدى أعرق اللغات في العالم. إن الإشكالية التي لا يبدو أن الأستاذ بنعمرو قد انتبه إليها هي أنّ ترسيم لغات أخرى في الدساتير ليس تتويجا لمسلسل من التطور والتأهيل لتلك اللغات كما يعتقد، بل هو بداية، حيث يتمّ الترسيم أصلا من أجل توفير ضمانات التطوير والتأهيل وليس العكس، ينطبق هذا على الإرلندية والباسكية والكواراني في الباراغواي وعلى عشر لغات بجنوب إفريقيا، وعلى اللغات الهندية وغيرها كثير، حيث يتمّ الترسيم من أجل تدارك حيف لحق بتلك اللغات، وليس لأنها أظهرت تطورا خارقا وانتشارا واسعا، فالباسكية عندما تمّ ترسيمها في إقليم الباسك لم يكن عدد الناطقين بها يتعدّى 1 في المائة، أي أنها كانت في طور الإنقراض، يقال نفس الشيء عن الإرلندية ولغات أخرى تمّ إنقاذها بالترسيم. وإذا كان الأستاذ بنعمرو قد اعتبر أن "الأصل هو ترسيم لغة واحدة والاستثناء هو أكثر وأن الاستثناء لا يقاس عليه ولا يتوسع في تغييره"، فينبغي تذكيره بأنّ ترسيم عدة لغات في أزيد من ستين دولة ليس "اسثناء". كما أن الحالةالشاذة فعلا و الغريبة في العالم هي حالة التنصيص على لغة وطنية بجانب لغة رسمية لان هذا لم يتمّ إلا في دولة واحدة هي الجزائر، و لم يعط لذلك أية نتيجة ملموسة في حماية الأمازيغية والحفاظ عليها لدى جيراننا، علاوة على أنّ الجزائر ليست نموذجا يُقتدى بالنسبة للمغرب.
ووقع الأستاذ بنعمرو في عدة تناقضات وهو بصدد التعريف بدساتير كل من بلجيكا وسويسرا وكنداوجنوب إفريقيا، حيث حاول أن يوهم القارئ بأن ترسيم أكثر من لغة إنما يتم محليا بينما توجد لغة واحدة رسمية للدولة ككل، وهذا غير صحيح بالطبع لأنه يعترف هو نفسه بعد ذلك بقوله وهو بصدد الحديث عن جنوب إفريقيا: "لم يرسّم بها على مستوى مجموع البلاد سوى لغتين هما الإنجليزية والأفريكانية مضاف إليهما حوالي تسع لغات محلية". وهذا معناه أن هناك لغتان رسميتان للدولة ككل وليس واحدة، نفس الشيء بالنسبة للهند حيث يقول "بها فقط لغتان رسميتان على مستوى بلاد الهند وهما: الإنجليزية والهندية مضافا إليهما 12 لغة رسمية محلية". وأغفل الأستاذ بأن في كندا لغتان رسميان هما الانجليزية والفرنسية. وتنص المادة 16 من الدستور على أن لهما وضعية وحقوق وامتيازات متساوية من حيث استعمالهما في مؤسسات برلمان كندا وحكومتها. ولم ينتبه الأستاذ بنعمرو إلى أننا في المغرب ليست لنا عشرات اللغات المراد ترسيمها بل فقط لغة واحدة هي الأمازيغية بجانب العربية المرسّمة منذ خمسين سنة، فالوضع المغربي أبسط بكثير مقارنة بأوضاع الدول الأخرى البالغة التعقيد. وكتب الأستاذ بنعمرو يقول: "هذا ومن الخطأ القول بأن هناك الترسيم بالكامل والترسيم بالتدريج، فالترسيم لا يتصور إلا تاما كاملا" وقوله هذا تكذبه دساتير الدول المتعددة اللغات، حيث تمّ ترسيم لغات إضافية والتنصيص في الوثيقة الدستورية نفسها أو في قوانين تنظيمية على التدرّج في استعمال اللغات المدسترة حديثا من أجل توفير الإمكانيات المطلوبة والتي لا تكون مهيأة منذ البداية، كتكوين الأطر وإنجاح التعليم وغير ذلك. وهذا ما تنبهت إليه أحزاب مغربية دعت إلى التنصيص على ذلك في مذكراتها المتعلقة بمراجعة الدستور، كما هو الشأن بالنسبة للحزب الإشتراكي الموحد الذي يقترح التنصيص على ما يلي: "تُعتبر اللغة الأمازيغية أيضًا لغة رسمية. تلتزم الدولة بتوفير الشروط التنظيمية والعلمية والمادية والبشرية لتفعيل هذا المقتضى. ويُخَوَّلُ مجلس النواب بواسطة قوانين صلاحية تحديد مجالات هذا التفعيل ودرجاته ومستواه حسب الإمكانات المُتاحة في كل مرحلة. وأما حزب التقدم والإشتراكية، فيقترح بدوره ما يلي: "العربية والأمازيغية لغتان رسميتان، وتعمل الدولة على إيجاد الصيغ الانتقالية الكفيلة ببلورة الطابع الرسمي للغة الأمازيغية، وتضمن التنوع الثقافي في تعابيره الجهوية وتعمل على إثرائه وتطويره. ويقترح حزب حزب الحركة الشعبية بدوره: "تخصيص فصل للغات الرسمية يتم التنصيص فيه على اعتبار العربية والأمازيغية لغتين رسميتين للبلاد مع التأكيد على ضرورة وضع قانون تنظيمي يقنن مجالات الاستعمال الرسمي لكلتي اللغتين وآليات الإرتقاء بهما بنيويا ووظيفيا". وفي حوار صحفي له أشار الدكتور سعد الدين العثماني إلى أن ترسيم الأمازيغية سيجعل الدولة "بمختلف أجهزتها ملزمة بإنجاح أوراش النهوض بالأمازيغية. والجميع واع بأن كتابة جميع الوثائق الرسمية ومشاريع القوانين باللغتين ليس أمرا مطلوبا اليوم. لكن وضع الإجراءات لتنضج شروطه في المستقبل هو أمر مشروع من حيث المبدأ، فإن تطبيقه عمليا يحتاج إلى نقاش وطني تتبلور نتائجه لتضمن في القانون التنظيمي المذكور". يبدو إذن أن الأستاذ بنعمرو يجزم قطعيا بأمور لا تطابق تجارب الدول الديمقراطية، ولا يوافق رأي غيره من السياسيين المغاربة.
هذا وقد أغفل الأستاذ بنعمرو بأن دساتير الكثير من الدول المتعددة اللغات تنصّ على إعطاء وظائف مختلفة للغاتها الرسمية المتعددة، ليس فقط لكون بعضها محلية والأخرى تشمل كافة التراب الوطني، بل أيضا لعدم إمكانية لعبها لنفس الوظائف في الدولة في مرحلة معينة، وهو ما يعني عدم صحّة ما ذهب إليه بسبب تبنيه مفهوما غير دقيق للغة الرسمية، حيث اعتقد بأن سبب اختيار اللغة الرسمية هو معايير وظيفية للإستعمال، والحال أن معظم الدول التي رسّمت عدة لغات فعلت من منطلق سيادي أو لأسباب سياسية وهوياتية تتعلق أساسا بجبر الضرر أو تدارك انتهاكات الماضي، أو في إطار مسلسل الدّمقرطة المتقدم، وهو ما ينفي صحّة فكرة الأستاذ بنعمرو حول ضرورة جاهزية اللغة وتوفرها على كل الشروط لكي ترسّم، وكذا قوله: "الترسيم يفرض استعمال جميع اللغات المرسّمة في كل المرافق العمومية". وقد اعتبر الأستاذ إحصائيات وأرقاما تقدمنا بها بخصوص وضعية الأمازيغية مجرد "مغالطات" لكي ينكر استمرار تعرّضها للتهميش والميز بقوله: "كما أنه من المغالطة القول بأن القناة الأولى والثانية تنتجان أزيد من 80 ساعة بالعربية بينما لا تنتجان إلا ساعة وخمسين دقيقة في الأسبوع بالأمازيغية. كما لم يتعد تعميم الأمازيغية في التعليم نسبة 10%". والواقع أن الأمر يتعلق بإحصائيات الهاكا وقد نشرت في العديد من الصحف المغربية، وإذا كان للأستاذ بنعمرو أرقام أخرى غير هذه فليدل بها وبمصدرها. ويدلّ على عدم إلمام الأستاذ بالموضوع وعدم بذله لأي جهد في استقصاء معطياته قوله إن القناة الأمازيغية تشتغل "من الصباح إلى المساء"، والحقيقة أنها تبث برامجها ابتداء من الساعة السادسة مساء إلى الثانية عشرة ليلا، أي بمعدل ست ساعات في اليوم، وهذا شيء قيل في جميع وسائل الإعلام عند بدء انطلاق القناة. وبسبب شكه في موقفه أضاف الأستاذ بنعمرو "فلنفرض أن هذه النسبة صحيحة ودقيقة ألا يحتاج الأمر إلى مناقشة وجدال؟!" والصحيح أنّ المنطق السليم يقتضي إما إنكار هذه المعطيات مما سيجعلنا نحيله على مصادرها ليطلع بنفسه، وإما أن يقبلها ويقوم بعد ذلك بمناقشتها، مع العلم أنها معطيات لا تحتاج إلى جدال ولا مناقشة، لأنها دليل صارخ على عنصرية لا غبار عليها.
ولتبرير هيمنة العربية على وسائل الإعلام وتهيمش الأمازيغية أشار إلى أنّ:"اللغة المستعملة بالقناتين الأولى والثانية هي اللغة العربية الفصحى وهي اللغة الوحيدة المرسّمة بالمغرب وبالتالي فهي لغة المغاربة جميعا"، فهل هذا حلّ للمشكل المطروح ؟ هل يمكن حلّ معضلة تهميش الأمازيغية بالقول إنّ اللغة العربية موجودة وهي لغة الجميع، أليست الأمازيغية أيضا لغة الجميع سواء كانت لغة موحدة أو "لهجات" ؟ أليس هذا سلوكا مناقضا لموقف المناضل الحقوقي الوفي لمبادئه ؟ هل يمكن اعتبار العربية بديلا للأمازيغية سواء في الدستور أو في أي مرفق آخر ؟ إنها في الواقع معضلة الشعور بالإنتماء، فالذي يشعر ب"عروبته" لا يكلف نفسه عناء احترام الممتلكات الرمزية لغيره، بينما على الذي يشعر بالإنتماء إلى الأمازيغية أن يؤكد صباح مساء على احترامه للعربية، والواقع أن الإحترام ينبغي أن يكون متبادلا في إطار الشعور بالإنتماء إلى الوطن الذي هو المغرب بكل ما فيه، وهذا هو معنى "تامغرابيت" الذي أكدنا عليه في مقالنا السابق وأنكره الأستاذ بنعمرو، لأن "تامغرابيت" تتناقض مع الإنتماء القومي العربي. ومثل كثيرين غيره تعمّد الأستاذ بنعمرو المقابلة بين العربية المعيار وبين اللهجات الأمازيغية، والحديث عن الحسانية كما لو أنها لغة قائمة بذاتها، والسؤال العلمي المطروح هو التالي: هل اللهجات الأمازيغية لغات قائمة بذاتها منفصلة عن بعضها بشكل تام ؟ هل يستطيع أحد ما البرهنة على ذلك ؟ إن الحقيقة اللسنة بالمغرب هي أن العربية بلهجاتها تقابلها الأمازيغية بلهجاتها، وأن الإعتراف الدستوري باللغتين يصون ويحفظ أيضا لهجاتهما، بدليل استعمال الدارجة في البرلمان والمحاكم والتلفزيون بدون أي مشكل لأنها تعتبر داخلة في إطار العربية المرسّمة.
يعتبر الأستاذ أن مشكل عدم التواصل بالعربية الفصحى هو مشكل الأمية، وهو سلوك الدول الإستعمارية التي تعتبر أن مشكلة التواصل مع "الأنديجين" هي مشكلة عدم معرفتهم للغتها، مما يجعلها تعتبر من الضروري أن تقوم بتعليم الناس لغتها للتواصل معهم، وذلك لتفادي الحل بالنسبة للغات الأصلية للسكان، وهذا هو موقف الزعيم الإستقلالي علال الفاسي، الذي دعا بدوره في مقال له نشر سنة 1965 في العدد الثالث من مجلة اللسان العربي، إلى عدم التحدث مع أي كان إلا بلغة الدولة، وفرضها في جميع القطاعات. وهو منظور نتج عن التبني الميكانيكي للنموذج الفرنسي اليعقوبي الذي لا ينطبق على المغرب على الإطلاق. والواقع أن مفهوم الأمية اليوم يشمل الجهل بالأمازيعية أيضا، إذ على الذي لا يعرف القراءة والكتابة بالامازيغية أن يعترف أيضا بأميته في هذه اللغة، لأنها لغة أدرجت في التعليم العمومي بالمغرب. ويضيف الأستاذ بنعمرو قائلا بارتباك:"أما لماذا لم يتم تعميم الأمازيغية في التعليم إلا بنسبة 10 %، فبغض النظر عن صحة هذه النسبة، فإن الجواب عن هذا السؤال متروك لوزارة التربية الوطنية وللمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية...!!". وجواب المعهد الملكي على الأستاذ بنعمرو موجود في مذكرة المعهد حول الدستور والتي تقدّم بها إلى الملك محمد السادس منذ أبريل 2006، والتي نتجت عن قناعة لدى المجلس الإداري للمعهد بأن عملية إدراج الأمازيغية في المؤسسات لا يمكن أن تتم بشكل طبيعي بدون ترسيم الأمازيغية في الدستور المغربي من أجل حمايتها وتوفير الترسانة القانونية الضامنة لذلك. والواقع أن الأستاذ بنعمرو قد حاول التشكيك في معطيات يعرفها الخاص والعام، كما تم نشرها على نطاق واسع في الصحافة ووسائل الإعلام الوطنية والدولية، بل إن القناة الثانية المغربية وقناة الجزيرة قد أنجزتا عدة برامج وروبورتاجات حول موضوع إدراج الأمازيغية في التعليم، وأعتقد أن آخر من ينبغي أن يشكك في حقوق المواطنين وفي الإنتقادات الموجهة للسياسات العمومية بالمغرب هو المناضل الحقوقي، أو الذي يحمل القبعة الحقوقية بين الفينة والأخرى.
ويصعب كثيرا التحاور والتفاهم مع الأستاذ بنعمرو عندما يتنصل من قضايا واضحة بتعتيمها، فبعد أن أبرزنا بوضوح أن الوحدة الوطنية لا تتقوى إلا بالعدل والمساواة و ضمان حقوق الجميع، أجاب الأستاذ "بأن الحق في الاختلاف وفي التعدد لا يعني ترسيم جميع اللغات واللهجات المستعملة في التعبير عن الاختلاف. كما أن الترسيم لا يعني القضاء على تعدد الأفكار والتنظيمات سواء كانت سياسية أو غير سياسية"، وهو تغليط واضح لأننا لم ندع إلى ترسيم جميع اللهجات بل طالبنا أن ينص الدستور على اللغة الأمازيغية لغة رسمية بجانب العربية. كما لم نقل قط بالقضاء على تعددية الأفكار والمواقف بل قلنا بالتدبير العقلاني للتعددية والذي يحول دون الصراع والإقتتال. كما جانب الأستاذ الصواب في قوله "ترسيم أكثر من لغة في دولة معينة يساهم في تسهيل الانفصال وبالتالي في تقسيم الدولة لينبثق عنها أكثر من دولة"، فالأمثلة التي أعطاها الأستاذ بنعمرو وهي بلجيكا والعراق وكندا لا ترجع أسباب الصراع فيها إلى ترسيم أكثر من لغة، بل إلى أسباب تاريخية عميقة في التركيبة السكانية والسياسات المتبعة والحروب السابقة، بل وإلى فقرات النصوص الدستورية نفسها أحيانا والطريقة التي تمّ بها تقسيم المجالات اللغوية، والدليل على ذلك أن معظم الدول التي رسّمت أكثر من لغة لا تعاني من هذا المشكل، فالثابت في الخطاب الحقوقي الدولي أن إحقاق الحقوق هو السبيل الوحيد لتقوية الوحدة والإنسجام بين أبناء البلد الواحد، وليس طمس الإختلافات وتجاهلها وممارسة الوصاية من طرف على آخر.
في هذه النقطة بالذات نقول للأستاذ بنعمرو ما يلي: إن الشعب المغربي شعب موحد من الناحية السياسية، ووحدته مكسب تاريخي لا رجعة فيه كما أسلفنا، ولا غنى عنه لتثبيت دعائم الديمقراطية، وأن تقوية هذه الوحدة إنما ينبغي أن تتم عبر ضمان العدل و المساواة بين الجميع، وهنا تدخل ضرورة المساواة بين اللغات والثقافات ، لأن وحدة الشعب المغربي ليست قائمة على أساس وحدة اللغة أو الدين أو الإثنية أو العرق، لكي يتفرق المغاربة عندما يتمّ الإعتراف بتعددية هذه العناصر، بل قامت وحدته على أساس الوطنية والإنتماء إلى الأرض المغربية وهي الأساس الصلب للبناء الديمقراطي. إن الزعم بأن وحدة المغاربة سينفرط عقدها بمجرد الإعتراف بلغة ثانية في الدستور يقوم على وهم الإعتقاد بأن المغاربة ظلوا موحّدين لأن لهم لغة واحدة ، والواقع أن المغاربة لم تكن لهم قط لغة واحدة، وإنما يجمع بينهم الشعور بالإنتماء إلى المغرب. و فيما يخص موضوع علاقة ترسيم الأمازيغية بحقوق الإنسان، أكد الأستاذ بنعمرو من جديد ما سبق أن قاله في مقاله الأسبق والذي أثار دهشة الجميع، وهو "عدم وجود أي ميثاق لحقوق الإنسان يدعو الدول إلى ترسيم لغة أو أكثر من اللغات واللهجات المتداولة بين مواطنيها، وكل ما تدعو إليه هو حماية جميع الثقافات واللغات واللهجات المرسمة وغير المرسمة من التهميش والاندثار" وهو ما استخلص منه الأستاذ أن ترسيم الأمازيغية لا علاقة له بحقوق الإنسان، ووجه الغرابة في هذا الرأي الشاذ يعود إلى أمرين: 1) أن حقوق الإنسان لا يمكن اختزالها في العهود والمواثيق والإتفاقيات والتي هي وثائق مرجعية، بل هي أيضا مواقف المنتظم الحقوقي الدولي وبياناته وتوصياته المنبثقة من تلك المرجعيات، بل إن هذه الأخيرة هي الأكثر تأثيرا في الحكومات والدول لأنها تنتج عن متابعة نشطاء حقوق الإنسان لمدى احترام المرجعيات المذكورة أو خرقها.
2) أنّ دعوة المرجعيات الدولية إلى "حماية جميع الثقافات واللغات من التهميش والاندثار" يرتبط أيضا بتوفير الإمكانيات الضرورية لتحقيق تلك المحافظة، وفيها الإمكانيات القانونية و المادية، وهذا ما يفسر لجوء لجان الأممالمتحدة ومنظمات حقوق الإنسان الدولية والوطنية إلى المناداة في بياناتها وتوصياتها بترسيم اللغات المهمشة أو المهددة، حيث تعتبر أن مبدأ الحفاظ على اللغات وتطويرها المنصوص عليه في الإتفاقيات والمواثيق يقتضي توفير الضمانات القانونية، وهي تقوم بذلك عندما يكون ثمة تظلم من طرف جهات تعتبر نفسها مهضومة الحقوق، وليس بالنسبة لكل اللغات واللهجات كما اعتقد الأستاذ بنعمرو، عندما عمد إلى التنكيت والدعابة الكاريكاتورية في موضوع الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، بقوله لو كانت الفدرالية مقتنعة بأن ترسيم اللغات عمل حقوقي لدعت إلى "أن تصبح جميع اللغات وجميع اللهجات مرسّمة دستوريا لدى كل دول العالم التي تنتمي إليها هذه اللغات واللهجات". وجوابنا على هذا التنكيت هو التالي : إذا لم تكن الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان مؤمنة بأن ترسيم الأمازيغية في المغرب مطلب حقوقي، فلماذا أصدرت توصية خاصة في الموضوع في مؤتمرها ال 34 المقام بالمغرب، وهي التوصية التي لاقت إجماع كل المؤتمرين ما عدا شخص واحد صوت ضدّها وهو الأستاذ النقيب عبد الرحمان بنعمرو ؟ هل يمكن لمنظمة تضم 143 جمعية حقوقية عبر العالم، أن تصدر توصية في موضوع لا يتعلق بحقوق الإنسان ؟ وهل يمكن لشخص واحد أن يكون على حقّ ضدّ جميع الخبراء الآخرين ؟ هل هذا يصدقه عقل ؟ وحتى يكون القراء على بيّنة نورد فقرة من التوصية المذكورة والمؤرخة في 14 يناير 2001، حيث تقول: "إن نموذج الدولة الوطنية التي تمّ إحداثه في أوروبا ونقله إلى جهات أخرى من العالم، قد ساهم في تهميش وإقصاء عدد كبير من اللغات والثقافات التي لم تحصل على وضعية رسمية في الدول (...) ونحن المدافعون عن حقوق الإنسان علينا واجب العمل على الحفاظ على تلك اللغات والثقافات. وبما أن المغرب هو البلد الذي يستضيف المؤتمر ال34 للفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، فقد قرّرنا أن نخصّص هذه التوصية للثقافة الأمازيغية، معتبرين إياها واحدة من الثقافات المهددة في عالمنا المُعولم. وفي هذا الإطار ندعو إلى توفير الإعتراف والحماية الدستورية للغة الأمازيغية بالمغرب وفي الدول الإفريقية، وذلك لضمان إدراجها في مجالات التعليم العمومي والإعلام والإدارة والعدل، وذلك حتى يكون الإعتراف بهذه اللغة ضمانا لحقوق الناطقين بالأمازيغية ولدورهم في مسلسل التنمية وترسيخ الديمقراطية". هكذا تحدث خبراء حقوق الإنسان في العالم، قبل عشر سنوات من الآن، وهي وثيقة تفسر بوضوح العلاقة الموجودة بين دسترة الأمازيغية وحقوق الإنسان. وليس صحيحا ما ذكره الأستاذ بنعمرو من أن "التوصية تقدم بمشروعها بعض الطوارقة الصحراويين المنتمين إلى جمعية حقوقية"، فالذي حرّرها بيده حقوقي من اليونان وكنت بجانبه مع مناضلين آخرين، ونشطاء من العالم. وفي هذا الإطار نقدم للقارئ نماذج من توصيات اللجان الأممية المتعلقة بترسيم الأمازيغية بالمغرب. جاء ضمن التوصية 59 للجنة الحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية المجتمعة بجنيف فيما بين 1 و19 ماي 2006، والموجهة إلى الحكومة المغربية ما يلي:" وتدعو اللجنة الدولة الطرف إلى النظر في إقرار اللغة الأمازيغية إحدى اللغتين الرسميتين في الدستور. وتشجعها على اتخاذ الإجراءات الضرورية للسماح للآباء بإعطاء أبنائهم أسماء أمازيغية. كما تحثها على اتخاذ التدابير اللازمة لتضمن بشكل تام للأمازيغ حقهم في ممارسة هويتهم الثقافية وفقاً للفقرة 1(أ) من المادة 15 من العهد التي تنص على الحق في المشاركة في الحياة الثقافية".
كما ورد في التقرير الأممي المنبثق عن اللجنة المكلفة بمناهضة كافة أنواع التمييز العنصري، الصادر في 27 غشت 2010، ما يلي:" وأخذت اللجنة علما بالإجراءات المتخذة من طرف المغرب فيما يخص تشجيع اللغة والثقافة الأمازيغية لاسيما تدريسها، وكذا تعزيز قدرات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، لكن اللجنة عبرت عن انشغالها لكون الدستور لا ينصّ على الأمازيغية كلغة رسمية، وبكون الأمازيغ حسب اللجنة، مازالوا يعانون من تمييز عنصري لاسيما في الولوج إلى الشغل والخدمات الصحية، خاصة عندما لا يتكلمون العربية. وتوصي اللجنة المغرب بتكثيف جهوده لتشجيع اللغة والثقافة الأمازيغية من خلال تعليمها واتخاذ الإجراءات الضرورية لضمان عدم تعرض الأمازيغ لأي شكل من أشكال التمييز، وتشجع اللجنة المغرب على النظر في التنصيص في الدستور على اللغة الأمازيغية كلغة رسمية". فما هي العلاقة الموجودة بين الإنفاقيات الدولية الداعية إلى حماية الثقافات واللغات والحفاظ عليها، وبين مثل هذه التوصيات الداعية إلى ترسيم اللغات في الدساتير؟ أعتقد أن القارئ لن يجد صعوبة في فهم طبيعة العلاقة. أما الأستاذ بنعمرو فلم يكتف بإنكار ذلك، بل أضاف قائلا: "طول مدة رئاستي للجمعية وعضويتي بها، وهي الوضعية التي لا زالت مستمرة حتى الآن، كنت أعارض صدور أي قرار من الجمعية يطالب بترسيم اللغة الأمازيغية دستوريا، لأن مثل هذا الطلب لن يكون حقوقيا طبقا للمعايير الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان" . غير أن الجمعية المغربية لحقوق الإنسان أقرت في أدبياتها وتقاريرها وبياناتها بعد ذلك بضرورة ترسيم اللغة الأمازيغية في الدستور المغربي، فكيف يفسر الأستاذ بنعمرو ذلك، إنه بالنسبة له نتاج "خلفيات سياسية وانتخابوية تحكمت في الموضوع"، وليس نتاج نقاش عميق أو مبادئ حقوقية، وإذا صحّ هذا الأمر فما هي الخلفيات التي تحكمت في الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان ولجنة الحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية ولجنة مناهضة التمييز العنصري والمنظمة المغربية لحقوق الإنسان وكافة الحقوقيين المغاربة، بل وما هي الخلفيات التي تتحكم في أعضاء من حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي نفسه وفي شبيبته الذين يرون ضرورة ترسيم الأمازيغية في الدستور، ويخالفون الرأي الأستاذ بنعمرو ؟
يضيف الأستاذ بنعمرو قائلا"إن رئاستي للجمعية امتدت من دجنبر 1994 لغاية أبريل من سنة 2001، وخلال هذه المدة لم يصدر أي قرار من الجمعية يطالب بترسيم الأمازيغية في الدستور وبالتالي لم يكن مسموحا لي قانونيا، أن أساند توصية تصدر عن مؤتمر الفيدرالية، الذي انعقد خلال مدة رئاستي، ولو ساندتها، وهذا ما لم أسمح به لنفسي، لتعرضت، وقتها، للمحاسبة والمساءلة من طرف الجمعية". والسؤال المطروح هو إذا صحّ هذا القول فكيف سمح مناضلون آخرون لأنفسهم بالتصويت لصالح التوصية وهم أعضاء في الجمعية مع الأستاذ النقيب دون أن يحاسبهم أحد ؟ ثم كيف استمر الأستاذ بنعمرو متمسكا بموقفه حتى الآن رغم أن الجمعية التي ما زال عضوا بها قد أصدرت موقفا واضحا لصالح ترسيم الأمازيغية ؟ نترك الأجوبة للقارئ الكريم. لكن رغم هذا كله، فأن يخطئ الأستاذ بنعمرو في الأمازيغية لا ينفي أننا نكنّ له كل الإحترام والتقدير بصفته مناضلا يساريا كبيرا، ساهم بفعالية في الدفع بمسلسل الدّمقرطة السياسية في اتجاه إنهاء الإستبداد وبناء دولة المؤسسات. وختاما، نعتقد مهما كان ما ستسفر عنه المداولات الحالية والحراك الشعبي حول مراجعة الدستور من نتائج، سواء لصالح الترسيم أو غيره، فإن أهم ما ربحه المغاربة من هذا النقاش العمومي حول الأمازيغية بأبعاده الفكرية والسياسية والعلمية وحتى الإيديولوجية، هو مزيد من الإقتراب من قضية ظلت لسنوات ضحية الأحكام التعميمية، كما أنّ هذا البتّ في بعض التفاصيل، يسمح بإشراك فئات أوسع في موضوع ظلّ مثار شدّ جذب، وآن الأوان أن تتم تسويته بشكل نهائي، حتى يتطور في اتجاه الأجرأة العملية والبحث الأكاديمي العميق والإهتمام المعرفي، عوض التضخم الإيديولوجي الذي ينتجه الإقصاء والصّراع.