ظلت المسألة اللغوية بالمغرب في قلب النقاش العمومي منذ الإستقلال، كما أنها لم تنفصل قط عن الرهانات السياسية للسلطة وللفرقاء المختلفين، وارتبطت في جوانب أخرى بإشكالية الهوية والإنتماء، وبالوضع اللغوي المغربي الذي يتميز بتعقده بسبب تجاور عدد كبير من اللغات الوطنية والأجنبية في شكل تراتبي انعكس على وظائف تلك اللغات ومكانتها. وبالقدر الذي فرض الإرث الكولونيالي وضعية امتياز للغة الفرنسية في دواليب الدولة وفي المجتمع، سعت الحساسيات الوطنية بعد الإستقلال إلى إعادة الإعتبار للغات الوطنية العربية والأمازيغية، حيث جعلت أحزاب الحركة الوطنية من التعريب أحد مبادئ المنظومة التربوية، كما انبثقت من عمق المجتمع حركة مدنية للتذكير بالمعطى الأمازيغي هوية ولغة وثقافة. غير أنّ الطريقة التي تمّ بها تدبير التنوع اللغوي المغربي على مدى العقود المنصرمة لم تكن تنحو نحو حلّ الإشكال اللغوي بالوضوح اللازم بقدر ما صنعت وضعية متأزمة يطبعها الإرتباك والتردّد مما أنتج وضعية قلق هوياتي عميق. فالإزدواجية اللغوية عربية فرنسية كانت تخفي وراءها رهانا طبقيا لم يكن في صالح أغلبية المغاربة، وإن كان في صالح أقلية استوعبت في وقت مبكر دور اللغة الفرنسية في الترقي الإجتماعي والحفاظ على امتيازاتها، كما أن واقع التعدد اللغوي الوطني لم يكن يرضي السلطة ودعاة التعريب الذين كانوا يربطون وحدة الأمة وقوة الدولة بتمركزها وقيامها على وحدة المرجعية في الدين واللغة والثقافة الوحيدة، مما أدّى إلى التضحية بالمكون الأمازيغي في إطار مفهوم اختزالي للوطنية، وخلق بالتالي أزمة تواصل عميقة بين الدولة والمجتمع، وأدّى إلى ضعف الإحساس لدى المغاربة بالإنتماء إلى ما هو خصوصي مغربي، كما خلق ضعفا كبيرا لدى المتمدرسين في تعلّم اللغات وإتقانها، مما انعكس سلبا على مستوى التمدرس بشكل عام. وقد ظهر في الآونة الأخيرة معطى جديد في النقاش العمومي يتعلق بمطلب الدارجة المغربية التي انبرى البعض للدفاع عنها باعتبارها لغة اليومي ولغة الناس، وانتصب لمهاجمتها البعض الآخر دفاعا عن العربية الكلاسيكية التي يرون أنها مهدّدة من الدارجة بعد أن كانوا يرون أنها مهدّدة من الأمازيغية ومن "إحياء الظهير البربري" إلخ... و يعرف الخاص والعام بأن الدارجة المغربية هي اللغة المستعملة يوميا من قبل أغلبية المغاربة (أزيد من 85 في المائة حسب الإحصاء الرسمي)، وهي لغة تولدت تاريخيا عن التفاعل العميق بين الأمازيغية اللغة الأصلية لسكان المغرب، وبين العربية اللغة القادمة من الشرق مع مجيء الإسلام، تمّ ذلك عبر تثاقف حضاري طويل المدى، وتمّ بشكل سلمي بعد استقلال المغاربة عن سلطة العرب المشارقة وإقامتهم دولهم المستقلة، ولهذا فهي تمثل عنصر خصوصية مرتبطة بالشخصية المغربية وتعطي صورة عن عمق التفاعل التاريخي والحضاري الذي كان المغرب مسرحا له منذ قرون طويلة. ولأسباب موضوعية لا علاقة لها بالإيديولوجيات المتصارعة، وجدت الدارجة المغربية نفسها تلج المدرسة بشكل عفوي عبر الخطاب اليومي للمدرسين، حيث يكتشف كل مدرس صعوبة تفاهمه مع التلاميذ بسبب حاجز اللغة ( العربية أو الفرنسية) التي يشعر التلاميذ أنهم لا يفهمونها بالوضوح اللازم، وخوفا من انعدام التواصل بين المدرسين وتلامذتهم بدأت ظاهرة الدارجة منذ عقود تغزو المدرسة، وأصبحت لغة تدريس للعديد من المواد داخل الأقسام بما فيها اللغة العربية نفسها، دون أن يكون ذلك موضوع مذكرات أو قرارات إدارية للدولة، وهو نفس الواقع الموجود في مصر وبلدان الخليج بصفة عامة، حيث يكتشف المرء أن بلدان العرب "الأقحاح" لا تستعمل فيها العربية الفصحى في التعليم إلا عند رجال الدين، بينما تحتل الدوارج والعاميات والأنجليزية بقية الفضاءات. يمكن القول انطلاقا من هذه الحقيقة بأن هذه اللغة التواصلية اليومية عنصر لصيق بالذات المغربية وبأنماط السلوك والتعبير اليومي وكذا بالتقاليد والعادات الجمعية، إنها بشكل ما تعدّ بجانب الأمازيغية أحد عناصر الشخصية القاعدية للمغرب، أو بتعبير أوضح أحد مظاهر "روح الشعب" المغربي . لهذا نستغرب من الطريقة التي يواجه بها بعض المحافظين مواطنيهم من الذين يدعون إلى اعتراف الدولة بالدارجة المغربية، واعتبار ذلك تآمرا على العربية وعلى الدين الإسلامي وعلى "ثوابت الأمة"، وهلم جرا من التهم الجاهزة والتي أصبحت من فرط الابتذال أرخص من سقط المتاع. إن المطلوب عوض الهجاء والتحامل هو التفكير العميق في "وظائف اللغات بالمغرب"، والبحث عن الأساليب الإجرائية لتدبير التعددية اللغوية الوطنية بشكل يضمن المردودية العملية والتواصل وجودة التعليم واكتساب المعارف العلمية، وتحرير الألسن من التردد والتلعثم والخلط بين اللغات الذي أصبح ظاهرة مغربية بامتياز. إن الوضعية التي يدعو إليها بعض المواطنين دفاعا عن الدارجة هي في الحقيقة وضعية قائمة منذ زمن، وهي أن الدراجة لغة تدريس في المغرب ولغة تواصل يومي، وهي وضعية تترسخ بقوة الأشياء، لا بسلطة التعليمات أو القرارات الفوقية، ف"لغة الشعب" لا بدّ أن تحتل المواقع تلو الأخرى في الإشهار والدراما والفن والخطاب اليومي والمدرسة، وهذا أمر طبيعي، لكن الإشكال الذي لا ينبغي أن يقع فيه المدافعون عن الدارجة هو الاعتقاد بان هذه اللغة يمكن أن تكون بديلا للغات القائمة، العربية والأمازيغية، فذلك يسقطنا من جديد في الخطاب الأحادي الاختزالي الذي عارضناه وقاومناه منذ عقود إلى أن بدأ في التراجع، وهو الخطاب الذي كان يعتقد في إمكان فرض اللغة العربية وحدها لغة للمغاربة في كل القطاعات والمجالات، حيث تراجع لصالح تكريس التعددية اللغوية والثقافية. إن المطلوب اليوم إذن هو التفكير في كيفية تصريف هذه التعددية بشكل عقلاني عبر توزيع أدوار اللغات سواء منها الوطنية أو الأجنبية، وذلك عبر الاتفاق على وظائف اللغات المتواجدة، فالمجالات التي تنشط فيها الدراجة مثلا وتعبر فيها عن نجاعة كبيرة كالمجال التواصلي في أوساط معينة لا يمكن حرمانها منه بأية ذريعة كانت، ولكن سيكون من الصعب الاتفاق على جعلها تستحوذ على وظائف اللغات الأخرى جميعها لأنها لن تستطيع الاضطلاع بكل تلك الوظائف دفعة واحدة. إن الدارجة المغربية منا وإلينا، وهي ليست بحال مخططا تآمريا من أحد، إلا إذا كان الشعب يتآمر على نفسه.