منذ ظهور حركة 20 فبراير/ شباط في المغرب ضمن تحولات الحراك بالمنطقة، اعتمد المغرب مجموعة من المبادرات والإصلاحات التي حاول من خلالها احتواء الاحتجاجات، والخروج بأقل تكلفة من تداعيات “الربيع العربي” . قبيل إجراء الانتخابات التشريعية لسنة ،2011 برز تحالف مكون من ثمانية أحزاب متباينة في تصوراتها ومرجعياتها، تحكمت في تشكيلته هواجس انتخابية مرتبطة بالحصول على أكبر قدر من المقاعد في هذه الانتخابات . في أعقاب ظهور نتائج الانتخابات التشريعية 2011 التي فاز فيها حزب العدالة والتنمية بنسبة مهمة من المقاعد، برز تحالف حكومي مكوّن من أحزاب متباينة في مرجعياتها وتوجهاتها، ويتعلق الأمر بحزب العدالة والتنمية وحزب الاستقلال وحزب التقدم والاشتراكية وحزب الحركة الشعبية . وقد بدا جليّاً منذ ظهور هذا التحالف أن أهم تحدّ سيواجهه إلى جانب التحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية هو المحافظة على تماسكه وانسجامه . وهو الأمر الذي أكّده انسحاب حزب الاستقلال من هذا التحالف بعد سنة ونصف السنة على تعيين أعضاء الحكومة . ورغم الصّخب الذي رافق الإعلان عن هذا الانسحاب، فهو يظل قراراً عادياً ومعمولاً به في الممارسة الديمقراطية الحديثة، بالنظر إلى دوره المفترض في إعادة التوازنات، وأهميته في خلق دينامية داخل المشهد السياسي، بما يسمح بمراجعة السياسات وتجاوز الاختلالات ومراجعة التحالفات وتصحيحها . خيار الفشل والنجاح وإذا كانت بعض قيادات حزب العدالة والتنمية ترى في هذا الانسحاب مؤشراً على رغبة البعض في تعطيل مسار الإصلاحات الكبرى التي باشرتها الحكومة، وإجهاض التجربة الحكومية الفتية للعدالة والتنمية، فإن حزب الاستقلال برّر انسحابه بمجموعة من العوامل ظل أمينه العام يرددها من قبيل اختلاف وجهات النظر في التعاطي مع بعض الإصلاحات الحكومية الكبرى المرتبطة بصندوق المقاصة مثلاً، وانفراد رئيس الحكومة باتخاذ القرارات وعدم قدرته على تدبير الاختلاف داخل التحالف الحكومي، وعدم تمييز رئيس الحكومة بين مهامه الحكومية والحزبية . وقد جاء هذا الانسحاب بعد عدم تجاوب رئيس الحكومة مع مطلب الأمين العام لحزب الاستقلال بإعمال تعديل حكومي، يعكس التحول الذي شهده الحزب في أعقاب مؤتمره العام الذي تمخض عنه فوز شباط بمنصب الأمين العام، وبخاصة أن دخول الحزب إلى الحكومة جاء في فترة كان حزب الاستقلال يعيش فيها مجموعة من المشكلات الداخلية انعكست على طبيعة الحقائب المحصّلة . وأمام هذه الوضعية، يجد رئيس الحكومة نفسه أمام خيارين رئيسين، أولهما السعي إلى البحث عن حليف آخر يضمن الأغلبية الحكومية، وهو ما يمكن أن يتجسد بالدرجة الأولى في حزب التجمع الوطني للأحرار، أو تعزيز التحالف بالانفتاح على الاتحاد الدستوري أيضاً. أما في حالة فشل المساعي في هذا الصدد لارتباطها بموافقة الأطراف الحزبية المعنية أو بطبيعة توجه حزب العدالة والتنمية، فيظل الخيار الثاني قائماً وهو تقديم الحكومة لاستقالتها، وإجراء انتخابات تشريعية سابقة لأوانها . وإن كان الخيار الثاني هو الأكثر أهمية ونجاعة من حيث إمكانية إفرازه لأغلبية حكومية أكثر استقراراً وتماسكاً، فإنه يظلّ مكلفاً من حيث الوقت والإمكانات المادية . ويبدو أن الخيار الأول هو الأكثر واقعية بالنظر للتحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الراهنة المطروحة أمام الفاعلين السياسيين في الحكومة والمعارضة، وبالنظر إلى كونه خياراً يدعم الاستقرار السياسي . حقيقة أن إقدام حزب الاستقلال على التدرج من المطالبة بتعديل حكومي إلى اتخاذ قرار حاسم بالانسحاب من التحالف الحكومي، وما رافق ذلك من طرح الأمر أمام الرأي العام، وهيمنة النقاشات السياسية والأكاديمية والإعلامية بصدده، على حساب قضايا حيوية وأكثر أهمية في مرحلة تفترض التوافق والحسم في تنزيل مقتضيات الدستور ومواجهة المعضلات الاجتماعية من بطالة وصحة وتعليم ومكافحة الفساد، وجلب الاستثمار، بعدما مارس حزب الاستقلال خطاباً حاداً في مواجهة أداء الحكومة أكثر صرامة من المعارضة نفسها، كلها عوامل أسهمت في إضعاف الحكومة داخلياً وخارجياً، وبخاصة أن الحسم في الانسحاب تأخر كثيراً بعد نأي المؤسسة الملكية بنفسها عن اتخاذ مبادرة حاسمة في الموضوع كرسالة إلى الفاعلين في التحالف الحكومي لتدبير خلافاتهم تبعاً لمقتضى الدستور . لكن هذا الانسحاب، يمكن أن يدعم دينامية المشهد السياسي المغربي، وبخاصة بعد انتقال حزب الاستقلال إلى جانب حليفه التقليدي في الكتلة الاتحاد الاشتراكي، لتعزيز دور المعارضة التي ظلت هشة ولم تستطع ترجمة مقتضيات الفصل العاشر من الدستور الذي منحها صلاحيات هامة، على أرض الواقع، فهو (حزب الاستقلال) على دراية بالملفات الحكومية وبنقاط القوة والضعف في حكومة بنكيران التي ظل طرفاً فيها لأكثر من سنة ونصف السنة بما يدعم أداءه في مراقبة ومواكبة العمل الحكومي بشكل أكثر فعالية وكفاءة . كما أن هذا الانسحاب سيسمح لحزب التجمع الوطني للأحرار وربما لحزب الاتحاد الدستوري أيضاً، بتجاوز ضعف أدائهما داخل صف المعارضة بانضمام أحدهما أو هما معاً إلى التحالف الحكومي . تحديات جديدة وتزداد التحديات المطروحة أمام الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية مع ظهور حركة “تمرّد” التي تسعى إلى إسقاط الحكومة، في أعقاب إزاحة الرئيس المصري محمد مرسي عن الحكم . إن ما يجري في مصر من تطورات في إطار صراع بين الشرعية الدستورية والشرعية الثورية بعد التدخل الحاسم للجيش يظل مفتوحاً أمام كل الاحتمالات . وهو خيار لا يمكن الإقرار بسلامته أو بنجاعة نقله إلى بيئة أخرى . إن فهم مكانة ووضع حزب العدالة والتنمية أو أي حزب مغربي آخر يعطي الأولوية للمرجعية الإسلامية في عمله، يتطلب الإشارة إلى أن خطاب التيارات الإسلامية وأداءها، يرتبطان بطبيعة الفضاء السياسي والقانوني الذي أفرزها وتشتغل داخله . كما يتطلب بداية استيعاب المقومات والأسس التي تحدّد قواعد اللعبة وعلاقة الدين بالدولة، ذلك أن الدستور المغربي، يؤكد في فصله الثالث على أن “الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد ممارسة شؤونه الدينية” . بينما يؤكد الفصل السابع منه على أن “لا يجوز أن تؤسس الأحزاب السياسية على أساس ديني”، فيما يؤكد الفصل 41 من الدستور على أن “الملك أمير المؤمنين وحامي حمى الملّة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية” . وهذه كلها عوامل تسحب البساط من أي مكون سياسي أو حزبي على مستوى تدبير الشؤون الدينية أو ادعاء حماية الدين الإسلامي بالمغرب . كما أنه وبالاطلاع على الورقة المذهبية للحزب نجد هذا الأخير يقدم نفسه كحزب سياسي مدني منفتح على محيطه، لا يدّعي الإطلاقية وامتلاك الحقائق، له برنامجه ووظائفه واستراتيجيته كأي حزب آخر تبعاً لقواعد اللعبة المتاحة . من جهة أخرى، نجد أن التحالف الحكومي نفسه الذي يضم تيارات حزبية على قدر من التباين في منطلقاتها وتوجهاتها، يشكل عاملاً آخر يجعل حزب العدالة والتنمية أمام تنفيذ مخطط حكومي لا برنامجاً حزبياً . فيما تشكل الصلاحيات المحورية المخولة دستورياً للملك حصناً منيعاً لمواجهة كلّ هيمنة مفترضة لأي مكون حزبي . ولا ننسى أيضاً أن وجود حزب العدالة والتنمية كطرف فاعل في المشهد السياسي المغربي منح هذا الأخير نوعاً من الدّينامية، كما أنه وفّر توازناً يخدم استراتيجية الدولة في مواجهة بعض التيارات الإسلامية التي مازالت تشتغل خارج قواعد اللعبة السياسية ولم تحظ بعد باعتراف رسمّي من قبل الدولة . إن الصعوبات الأخيرة التي واجهت الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية، ستنعكس حتماً على أدائه من حيث تجاوز بعض الأخطاء التي سقط فيها تحت محك العمل الحكومي، من حيث تجاوز المبالغة في الثقة بالنفس، وتوخي أساليب أكثر واقعية وانفتاحاً في تدبير شؤون التحالف الحكومي وفي التعامل مع الخصوم السياسيين . هذا المقال مأخوذ بموافقة *الدكتور إدريس لكريني من موقع دار الخليج - الاسبوع السياسي. * مدير مجموعة الأبحاث والدراسات الدولية حول إدارة الأزمات، المغرب