حرص النظام المغربي منذ القدم على احتكار الفعلين السياسي والديني، ما جعله يمتلك وسائل عمل يتحرك بها ضد الفاعلين النشيطين الذين يتحدونه وينافسونه في الميدان، وأبرز وسيلة وأشرسها هي "آلية المخزن". فكيف تم توظيفها قبل الاستقلال (1) وبعده (2)؟. 1 المخزن قبل الاستقلال. عمل السلطان المغربي على تكريس وجوده الروحي والمادي بواسطة المخزن الذي عرف بتسلطه، لذلك "لم يكن غريبا أن تنحت الذاكرة الشعبية توصيفات خاصة عن المخزن، من قبيل أن "المخزن قاد بشغالو" و" اللي قالها المخزن هي اللي كاينة" و"يد المخزن طويلة" وأن "تبدع" في التوصيف وتجعل منه و"البحر والعافية" ثلاثية لا ثقة فيها" . فالكل متوجس من المخزن وحذر منه، نظرا لمراكمته لتاريخ من التسلط والعنف والخروج عن القانون "فالمخزن كسلطة مضمرة في المجتمع تتموقع فوقه كي تتحكم فيه بقوة وتسلط" ، فهو منذ نشأته يستند إلى"سلطة مطلقة وشاملة لكافة أوجه وأدوات وآليات السلطة، دينية كانت أو سياسية أو اقتصادية أو ثقافية، ولكافة مظاهر العيش" . وكل مناوئ لسياسته ولمنهجه يقولبه المخزن" في قولب اللاشرعية والبربرية والجاهلية" . لذلك سيبتدع مفهوم السيبة وينتجها، بحيث أن المخزن كما يستنتج "ميشوبيتر" "يتأسس على الاستبداد واللاشرعية... مؤكدا أن المخزن يرعى الفوضى الاجتماعية ويستغلها لصالحه كما يقوم بتأجيج العداءات والحروب والنزاعات بين القبائل ليعزز وظيفته كحكم بينها" ، لذلك أنتج المخزن السيبة وأطرها ليتمكن من إظهار نفسه دائما في صورة الغالب المهيمن القوي ، ويتمظهر في حلة المنتصر النهائي. "إن المخزن السياسي الإداري الذي تجلت وظيفته عند J.Waterbury في جمع الضرائب لأداء رواتب الجند ولضمان إخضاع ضريبي للقبائل، له وظيفة أكثر وضوحا هي إنتاج السيبة" ، فقد كانت له القدرة على إشعال فتيل النزاعات القبلية ليتدخل بعد ذلك لإخضاعها. ولم يقتصر تدخله هذا على القبائل بل تعداه إلى كيانات أخرى، خصوصا الزوايا بحيث "سيخلق المخزن صراعات داخلية في الزاوية، حول المشيخة فيصبح هو حكما فيها، يقول بول مارتي بهذا الخصوص: " هكذا يتدخل المخزن في القضايا الأساسية للزوايا، دافعه في ذلك المصلحة السياسية وليس هاجس الحفاظ على النظام العام. وتتمثل هذه المصلحة في مراقبة الزوايا عن قرب ومحاربتها"" ، وكان من سياساته تفضيل زوايا وأضرحة على أخرى " هذه الوضعية بقدر ما أدت إلى إضعاف الزوايا ومخزنتها، فقد دفعت ببعضها كما تقول م. موريس إلى الخروج من وضعيتها التقليدية، أي وضعية السلم والتفاوض، لتتحول إلى زوايا محاربة" . هذا التوظيف المكثف للعنف والاستبداد كان من أجل استيفاء الجباية والهبات، لترسيخ دعائم السلطة والاستبداد، " فأصبح العنف المستمر نظاما دائما: تصرف الضرائب لتمويل الجيش واستخدامه لسحق القبائل بهدف جباية المزيد من الضرائب" ، وهو ما كان يلقى غالبا معارضة من قبل القبائل والزوايا والشرفاء، لذلك فقد كان أي منافس للسلطة على الحكم يلقى مناصرة من لدنهم. وهو ما كان يزيد في جبروت جيوش المخزن الذين كانوا يوقعون بهم "وقعة شنعاء وقطعوا منهم رؤوسا عديدة علقت على أسوار فاس إرهابا للعصاة أمثالهم، وزجرا لهم" للعودة للطاعة والخضوع، كما كانت هذه الجيوش تسلب وتنهب خيراتهم" وتحرق القرى وتدمرها، وتقتلع الأشجار "وتأكل" المحاصيل، وتعود بالرؤوس المقطوعة قصد التباهي " . هذه البشاعة في الدمار والتقتيل دفعت واضعي مشروع دستور1908 - الذي أقبر في حينه - إلى العمل على تجريمها دستوريا. فقد جاء في المادة الثلاثون بأنه "لا يجوز أبدا أن تقطع رؤوس العصاة الذين سقطوا في قتال مع عساكر المخزن وتحمل إلى فاس وغيرها وتعلق على الأسوار كالعادة المعروفة، فكل قائد فعل ذلك يكون مسؤولا أمام منتدى الشورى والسلطان"، كما جاء في المادة الواحدة والثلاثون بأنه "لا يسوغ لعساكر المخزن عند مقاتلة قبيلة من القبائل أن ينهبوا مواشي القبيلة ودوابها وأشياءها ويقتسموها بينهم حسب العادة المعروفة، فكل قائد يأتي ذلك يكون مسؤولا أمام منتدى الشورى والسلطان "، كما نصت المادة الثانية والثلاثون من نفس مشروع الدستور على أنه" لا يسوغ أبدا قتل الأسرى والجرحى أو تجريدهم من الثياب وإرسالهم عراة كالعادة المعروفة فكل قائد يفعل ذلك يكون مسؤولا أمام منتدى الشورى والسلطان ". إنه لمن العجب في دولة دينها الإسلام، أن يفقد فيها المرء حياته بغير وجه حق. وإن الإنسان ليبقى "متعجبا من السهولة التي كان يقطع بها الحكام الرؤوس البشرية ويعلقونها على أبواب المدن" . والأعجب من ذلك هو اعتبار تلك الممارسات مستمدة من مشروعية السلطان الدينية، رغم حرص هذا الأخير على عدم إظهار تداخل شرعيته بشرعية المخزن الذي هو رئيس له "فهو غير متورط في نشاطه" . فالمخزن المغربي استمد مشروعيته من مشروعية السلطان الدينية المتينة( النسب الشريف) فغدا "الطابع الأساسي للمخزن (هو) أنه مؤسلم وعربي ومعرب" ، بل غدا المخزن "المقرر الحقيقي لخيارات السلطان والموجه للقرارات، كما أنه يشارك من خلال ظل السلطان في السياسة" . وهو ما جعله حريصا على إتمام البيعة للسلطان لأنه أول المنتفعين بها. فقد بلغ به الأمر كما يقول عبد الله العروي إلى حد حث الفقهاء على مباركة الإمام وباقي الزعامات المحلية على الاعتراف به، والذي لا يعترف بإمام شرعي يكفر ويعد غير مسلم ، فالمخزن يعد أكثر المنتفعين بتمام البيعة في أحسن الأحوال وانحناء الكل للسلطان" . ولقد استفاد المستعمر الأجنبي من خطط المخزن بحيث أنه "قسم المغرب إلى نافع و،آخر غير نافع وهو تقسيم يزعم أنه يجد تبريره التاريخي في ثنائية بلاد المخزن وبلاد السيبة" . إن السؤال الذي يطرح نفسه بشدة: هل مازال للمخزن وجود قوي ضمن البنية النسقية للنظام السياسي المغربي في وقتنا الحالي ؟ 2 استمرارية المخزن بعد الاستقلال. لم تستطع التحولات العميقة التي عرفها المغرب إبان الحماية زعزعة المخزن وتغيير بعض من أسسه، بل إن احتكاكه بالمستعمر أكسبه مرونة وتجربة للتكيف واحتواء تلك المتغيرات "فالانتقال من المخزن إلى الدولة، لم يقد إلا إلى المزيد من المخزنة، وانتصار الشخصانية على المؤسساتية، وإعادة إنتاج المخزن في صورة دولة حديثة، لكن بممارسات وعلاقات تقليدية" ، فخضع المغرب لمنطق المخزن المستمر الذي تقوى أكثر في عهد الاستقلال "فالمخزن لم يصبح مهيمنا حقيقة إلا بعد الاستعمار، أي أن قدرته على السيادة قد دعمتها أجهزة وتقنيات السلطة التي أورثتها له الإمبريالية" . ولعل قوة المخزن تتجلى في القدرة على التشكل، فبعد جلاء الاستعمار"تشكل هذا المخزن أساسا من القوة المسلحة الملكية ومن مصالح الأمن" . بل إن المخزن استطاع احتواء كل المجالات فأصبحنا نتحدث عن" المخزن الثقافي"و"المخزن الاقتصادي"و"المخزن الرياضي"و"المخزن الديني"...وقد جسدت المصالح الأمنية على الخصوص وجه الرعب للنظام السياسي المغربي، إذ كانت وما تزال آلية تنفيذ بشعة للمقاربة الأمنية الهشة لهذا النظام، حيث ظلت هذه المقاربة" هي الحل الوحيد لمواجهة كافة التحديات. وقد لوحظ هذا المنحى في ما يخص مواجهة موجة الإرهاب التي عرفها المغرب عقب تفجيرات الدارالبيضاء 2003 وأيضا مواجهة الدولة لبعض الانتفاضات الشعبية التي عاشتها بعض مناطق المملكة" . ورغم محاولة هذه الأجهزة التمظهر بتبنيها "المفهوم الجديد للسلطة" مع تولي الملك محمد السادس للعرش، إلا أن ثقل ما تنقله التقارير الدولية من فظاعة الممارسات الأمنية، كشف إلى حد بعيد كم هو بعيد ذاك "المفهوم الجديد" . غير أن أحداث 11 شتنبر 2001 شكلت "طوق النجاة" للمصالح الأمنية التي التقطته "في مقايضة شبه صريحة لحروبها المحلية ضد التطرف الإسلامي مقابل ضمان استمرارها في السلطة بدون كشف حساب" .فطاردت الملتحين والمعارضين من الإسلاميين وغيرهم، وهو باب مازال مفتوحا دون أن يؤمن للبلاد حصنا منيعا ضد أعمال العنف الأخرى، خصوصا مع "استمرار التعسفات على المواطنين في عدة مجالات" . لقد كان واضحا وجليا حجم "المعالجة الأمنية بواسطة العصا والسجون" الذي كان من نصيب الإسلاميين أكثر، بل إن "السلطة المشرفة على الأجهزة الأمنية تدفع في اتجاه المواجهة مع الإسلاميين" . وبلغ أمر هذه الأجهزة إلى حد التدخل في الحقل الديني، بحيث اتضح جليا من خلال الإجراءات المصاحبة لأحداث 16 ماي "أن السياسة الجديدة لتدبير الشأن الديني تركت هامشا كبيرا لتدخل وزارة الداخلية والأجهزة المخابراتية بمختلف أذرعها لضبط الحقل الديني وإحصاء أنفاسه، لتحقيق أهداف غير معبر عنها في الخطاب الرسمي" ، والحرص على احتكار تدبير ملف السلفية الجهادية عوضا عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. لقد عرت السياسة الأمنية "هاجس النظام الأول والأخير والهاجع في الحفاظ على كيانه وسلطته، والنأي بعرشه من توعدات الإسلاميين الجهاديين ومنافسة الإسلاميين المناصرين" . وجند لذلك أبواق دعايته من إعلاميين وهو ما يفسر "التناول الإعلامي المريب لملفات المعتقلين الإسلاميين ... التي لا تتردد.... في تأييد ممارسات أجهزة أمنية تتسابق على انتهاك كرامة المعتقلين إذا كانوا إسلاميين دون سواهم، فإعلام "العهد الجديد" يعج بالعديد من المنابر التي تكاد تشيطن كل معتقل إسلامي" . 3- خلاصة مما سبق يمكن الجزم بأن: هاجس المخزن المكرس في سلوكه "هو توفير كل الضمانات والشروط التي تعزز حضوره في دواليب السلطة، في ذهنية المجتمع، في المجال، في اليومي، في السياسي، في الديني، في الاجتماعي، وكذا في الاقتصادي.." . مازال المخزن مستمرا في استغلاله للإسلام كغطاء شرعي من أجل تثبيت شرعيته وفرض وتقوية سلطانه. بالنسبة للمخزن يعتبر" النظام العام"بالمعنى الضيق أساسي وجوهري ومقدم على كل الاعتبارات الأخرى، فأمن النظام مقدم على أمن المواطن، فمفهوم أمن المواطن يعتبر ثانويا. إن كان دستور 2011 يتحدث عن تأسيس المجلس الأعلى للأمن للسهر على مأسسة ضوابط الحكامة الأمنية الجيدة يثير الاستغراب على اعتبار أن هذه المأسسة هي" مهمة الدستور نفسه، وليس مهمة المجلس، وكيف يتولى المهمة مجلس يحضره مسؤولو الأجهزة الأمنية، ويشاركون بالتالي في هذه المأسسة التي تفترض بداهة تحديد سبل مراقبة عملهم وأدائهم" . لايمكن التسويق والتصفيق والتصديق بزمن الحكامة الأمنية أمام تصاعد مظاهر العنف المادي والمعنوي التي يعاني منها المواطنون. الحقيقة /المعضلة الكبرى هي استمرار احتكار السياسة الأمنية من طرف القصر الذي تتبع له مختلف الأجهزة الأمنية . ويمكن الجزم أيضا بأن الحقيقة الأكبر هي أن استمرار دولة المخزن"الممتلئة بنفسها" والمتشبعة بالمقاربة الأمنية والاعتقالات وسياسة الاحتواء لن تعالج المعضلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي أفرزت التطرف والكراهية والبؤس والفوضى ، بل ستؤدي إلى مزيد من الاحتقانات والاحتجاجات ، سيكون أكبر ضحاياها المخزن نفسه لأن الزمن غير الزمن والإرادات غير والإرادات، إنه زمن ربيع الشعوب، إنها إرادات تتوق للحرية والانعتاق وتسعى لترسيخ دولة الحق والقانون.