الأولى يحدث في حياة كهاته، أن تصير امرأة تجلس خلف الواجهة الزجاجية لمقهى وتبكي. تبكي بمرارة لأنك تشاهد، في زاوية شارع ما، رجلا وامرأة تحت مظلة. عشيقان يحاولان التماثل من وعثاء فراق وشيك، ومزاولة غريزة الانفصال على مضض، مادامت العين لن تتملى برؤية العين إلا بعد انقضاء مدة طويلة. يبتعدان متقهقرين بخطوات كسيرة في اتجاهين متعاكسين، لكنهما سرعان ما يعودان تحت زخات المطر بخطوات مظفرة إلى تباريحهما ويدخلان من جديد في غمد بعضهما والمظلة كما يدخل القمر في المحاق. تحتسي المشهد برمته وأنت تواصل البكاء بمرارة أكبر، لأنك كنت ذلك الرجل الذي ودع تلك المرأة إلى الأبد في حياة سابقة. الثانية يحدث في حياة كهاته، أن ترى نفسك وحيدا مثل زرافة في الصحراء داخل الحافلة التي تقلك كل صباح إلى جحيم العمل. بلاكلل، تبصر عبر زجاجها الجانبي التقاطع اللانهائي، ذهابا أو إيابا، للحافلات الأخرى المارقة. لاتعلم شيئا عن الوجهة التي ستيمم شطرها، لكنك تعلم علم اليقين إن كانت ستصل أم لا، وأنك هناك على أحد المقاعد كما لو أن حياتك انحلت في حيوات كثيرة أخرى. هناك بعد أن حزت جماع ذاكرتهم وأضحت السبل المتضاربة لمصائرهم في عهدتك. هناك طفلا أو عجوزا. كهلا أو فتاة في ريعان الصبا. طويل القامة أو قصيرها. معافى أو كسيحا. أبيض البشرة أو أسمرها. ترى نفسك وحيدا مثل زرافة في الصحراء داخل الحافلة التي تؤوب بك إلى عزلة المنزل، ولاتفكر مطلقا في أن تلقي أدنى نظرة خارج الزجاج الجانبي. الثالثة يحدث في حياة كهاته، أن تقتحم حياة ليست في ملك يمينك وتسكن فيها. وها أنت، منذ أسبوع مضى، في شقة صغيرة، بعد أن انتحلت كيان شاعر فاشل وأقمت في وجدانه وتصرفاته وأفكاره كما نقيم في بلد غريب. سيهيمن عليك ملل حاد ودخان سجائر لاعد لها. سيفتك الكحول بعافيتك وستدور كدمية في آلة غسيل بحثا عن أخيلة مناسبة. سيرتعد قلمك كارتعاد الدلو في البئر ومن البياض ستنفلت كلماتك كانفلات الشعاع من الكف القابضة. لن يفارقك الإحساس أنك مجرد كومبارس لم يطلعه أحد على السيناريو في فيلم لانهاية له وسيتفاقم فشلك. ستنهار مؤرقا بكوابيس ووساوس من أشنع الأنواع وسيجافيك النوم. لن تحتمل أكثر هذا الغرق في رواسب شخص آخر وأنك مجرد ظل وضيع لرجل كئيب محطم. أخيرا، ستغادر دون رجعة ليس فحسب لأن مهنتك كموظف صغير أكثر بهجة من كل الإغراءات المزيفة لصورة الشاعر، بل أيضا لأن ثمة دائما ألما أفضل من غيره. الرابعة يحدث في حياة كهاته، أن تجد نفسك، ذات صباح و بمحض الصدفة الخالصة، وجها لوجه مع نسخة طبق الأصل منك. النسخة التي سترضخ سريعا لما عرضت عليها أن تنتحل لبعض الوقت جلدك وقائمة المسؤوليات المناطة بك داخل الأسرة. وبعد فترة تمارين تسخينية وجيزة، برعت فيها النسخة براعة قصوى في المواظبة على الذهاب إلى العمل والسوق. في تسديد الفواتير وتدبير الخلافات. في مراجعة دروس الأولاد ومضاجعة الزوجة، قيض لك أخيرا أن تتلمظ شعور الأجنحة الذي ينتاب الحشرة التي كانت عالقة في دبق الصمغ. غير أنك، في غضون إجازتك الاختيارية، من فندقك الرخيص الواقع في جهة بعيدة مجهولة، كنت تكلم بديلك يوميا لتطمئن على أحوال العائلة. فجأة، سيصيب الهاتف الخرس.ستنزعج وسوف تفتر همتك كما لو أنك لم تتحمل لأمد طويل أن تكون ذلك الرجل المستهتر، المنحرف، والعدمي الذي طمحت للارتقاء إليه دوما. ستهرع للعودة على أول قطار وفي نيتك المطالبة باسترجاع كامل صلاحياتك ووضع حد نهائي للعبة تبادل الأدوار هاته، ثم ستقرع باب منزلك القديم، لكنك ستجد نسخة جديدة طبق الأصل منك تخبرك بضرورة تأجيل مطلبك حتى عودة نسختك السابقة من إجازتها الاختيارية في فندق رخيص يقع في جهة بعيدة مجهولة. الخامسة يحدث في حياة كهاته، أن يعلن عن افتتاح مستودع للأرواح. وبما أن روحك أمعنت دوما في وخزك والإثقال عليك كمسمار الكيف في قدم، وأضحى لزاما أن تبتعد عنها قليلا كي تصير أكثر عافية وخفة، فانك ستبادر إلى إيداعها هناك لمدة شهر مقابل وصل. بيد أنك لما عدت لاستردادها ستكتشف أن المستودع أصبح يوفر خدمة استئجار الأرواح البديلة. لم تتردد، وجربت ليومين واحدة محلية. أعدتها لأنها لم ترقك، ثم استخدمت واحدة مستوردة. أعجبتك جدا، فأصبحت مدمنا على الأرواح البرانية. فتارة أنت سويدي، وتارة أخرى أنت موريطاني. أحيانا ماسح أحذية أمريكي، وأحيانا أخرى راقصة ستربتيز تايلاندية. نسيت روحك المستأصلة تماما وانتهى بك الهجران أن عرضت عليهم في المستودع شراءها بأي ثمن. روحك الضائعة والمشردة بين الأجساد المضيفة، التي تكلمك تليفونيا بين الفينة والأخرى من كل أصقاع العالم. السادسة يحدث في حياة كهاته، ألا تتعمد البثة العيش على هذا المنوال البغيض والمذل لما تبقى من العمر، لكن ما ذنبك إذا ما كانت الروح قد قررت البقاء معك، في حين أن جسدك الناحل سيغادرك بلا رجعة في هيئة أدنى ليسكن جسدا آخر كنت على الدوام تضمر الرغبة في اقتلاع أحد عينيه كما اقتلع " ادغار ألن بو عين "بلوتو" بمخلب معدني. جسدا سمين الحجم، ناعم الملمس، وبدون قلق أنطولوجي على الإطلاق. البوال أسفل الأشجار. النباش حاويات الأزبال. المتلبد تحت المقاعد الوتيرة. الغافي على بطنه سحابة النهار كلما استجار بعتبة المنزل، في انتظار أن تسطع زوجتك الجميلة بصحن الطعام. وهات دخولا وخروجا من بين قدميها، وهاك تسلقا لثيابها، وهاتيك قفزا في حضنها، وهات هاك هاتيك غمرا لها بدلاله الكريه، لتنتهي هذه الوصلة الضاغطة على حبال أعصابك بأحذية الغيرة بالحركة المرتعشة في كل حدب وصوب للذيل المنتصب وموجة النباح النشوان مباشرة بعد لحس الصحن عن آخره. السابعة يحدث في حياة كهاته، أن يسرق أحدهم منك روحك على حين غرة ويتبدد في العدم. وبعد انصرام سنوات من البحث المضني ودفع شبهة الموت لأن الجسد وحده لايكفي لإثبات عدم الغياب، سوف تعثر عليه. كان ساعي بريد. ستطالب باسترجاعها، لكنه سيخبرك وعلى وجهه كل أمارات الأسف أنها منذ مدة في حوزة شرطي. ستجد الشرطي بعد جهد جهيد، وستكرر طلبك. غير أن ذلك سيكون مرة أخرى متعذرا لكونه خسرها دفعة واحدة في جلسة قمار وملكيتها الآن آلت إلى ساقية في حانة حسب ما أنهى إلى علمك. بعد هذا، ستكف عن المطالبة بها،ستبدأ فحسب في المواظبة على أقصى زاوية من الكونطوار، وستتسلى كل ليلة حتى يتآكل فحم السهر برؤية روحك في كامل غنجها. روحك التي تعكف على تهذيب عبوسها. روحك التي تتلوى على إيقاع الشعبي والراي. روحك التي تضحك كالأرجوحة. روحك التي تتفنن في تقديم البيرة وكؤوس البيرة. روحك التي ستغادر بعد قليل مع الزبون الذي أعجبها ودفع أكثر. روحك التي تود أن تكون هكذا بحذافيرها في حياة قادمة.