ما الذي يجري في ليبيا منذ منتصف شهر فبراير من هذا العام, العام 2011؟ من يحارب من؟ وفق أي منطق؟ بتمويل ممن ولحساب من؟ قد نملك بعض عناصر الجواب, وقد يملك غيرنا بعضا منه, تبنيا أو اختلافا. لكن كل ذات العناصر تبقى مجرد اجتهادات, لقراءة وفهم مجريات ما يقع بليبيا, منذ ما يناهز الثلاثة أشهر من الاقتتال. لنبدأ أولا, باستبعاد ما يبدو لنا غير وارد في خلفيات ومسببات ما جرى من حينه, ولا يزال يعتمل بلييبا, لنقول التالي: °- إن ما جرى منذ شهر فبراير الماضي, ولا تزال أطواره معتملة على قدم وساق, ليس بالتأكيد ثورة شعبية, كما عايشنا ذلك بحالة تونس ومصر, واليوم ومنذ مدة باليمن وبسوريا. الدفع بهذا الاحتمال إنما هو من الاعتقاد بأن ثمة تقاطبا واضحا وصارخا, بين السلطة من جهة والجماهير بالشارع من جهة أخرى, كما شاهدنا ولا نزال نشاهد بالدول المذكورة. كما أنه ليس ثمة ما يشي بأن كل الشعب الليبي قد بات وجها لوجه مع سلطة العقيد القذافي, يزايد عليها, يحتج ويصيح جهارة ضدها, ويطالب بموجبها رأس النظام بالرحيل. القائم لحد الساعة على الأقل, أن هناك "ثوارا" يسيطرون على بعض مدن ومراكز ليبيا, بدعم من قبائلها والمنحدرين منها. وأن هناك سلطة مركزية بطرابلس الغرب, حيث لا يزال للقذافي مؤيدوه ومناصروه, بيعة وحملا للسلاح. نحن إذن بهذه الحالة, بعيدون كل البعد عما جرى في تونس وفي مصر, وإلى حد ما عما يجري باليمن وبسوريا. °- ثم إن ما جرى ويجري بليبيا, ليس بالقطع مظهرا من مظاهر الحرب الأهلية, يتناحر بموجبها أبناء الوطن الواحد, على أساس من عناصر العقيدة أو الطائفة أو المذهب أو العرق أو الظلم المترتب عنها مجتمعة, أو المرتكز عليها, أو المشرعن له من خلالها. لسنا بحالة ليبيا, بإزاء هذا السيناريو, إذ عناصر اللحمة المجتمعية متوافرة, ولم تكن يوما مصدر تنافر أو تنازع أو مكمن تناحر, أو أداة لإشعال الفتنة بربوع البلاد حتى. ° ثم إن ما جرى ويجري بليبيا اليوم, ليس تناحرا بالوكالة بين طرفين. فلا القذافي يطارد "الثوار" لغير مصلحته المباشرة, ولا هؤلاء يناهضون سلطة القذافي ويحاربون خارج مصلحتهم, اللهم إلا إذا اعتبرنا تدخل حلف شمال الأطلسي لتعضيدهم, حربا بالوكالة. وهو ما ليس مؤكدا بالجملة حقا. إذا كان الذي جرى ويجري بليبيا ليس ثورة شعبية, ولا حربا أهلية ولا اقتتالا بالوكالة عن أحد, فما طبيعة ما يقع بالبلاد, وما أسبابه ودوافعه الأساس؟ إن الذي يتراءى لنا بالتحليل الأولي البسيط, أن الذي جرى ويجري بليبيا, إنما هو مجرد صراع على السلطة صرف, بين "زعيم تاريخي" لا يقبل المزايدة على سلطته و"أفكاره" وعما قام ويقوم به, وبين أصدقاء له, شاركوه انطلاقة الثورة بأواخر ستينات القرن الماضي, وشاطروه منطقه وأسلوبه في الحكم لأكثر من أربعة عقود مضت, وأضحوا جزءا لا يتجزأ من منظومته, يدافعون عنها خطابة وممارسة, يمثلونها بالخارج, ويدافعون عنها, كلما كان ثمة من الشدائد ما يستوجب ذلك. ومعنى ذلك, أن الذين يتزعمون حركة "الثوار", ويديرون الانتفاضة على القذافي من "العاصمة" بنغازي, إنما هم ذاتهم الذين رافقوا القذافي, طيلة الأربعين سنة الماضية, في تفكيره كما في سلوكه, كما في اختياراته, كما في القرارات التي كان يعتمد. إنهم كانوا جزءا من منظومته "العقدية", بل كانوا أقرب مقربيه, فكرا وبالممارسة أيضا, لا بل ولربما أسهموا في التغطية على ما قام به, أو ما كان ينوي القيام به. هل هي صحوة ضمير من لدنهم, أم ترى أن كل ذلك إنما أتى لترتيب مرحلة لم يعد للقذافي القابلية على مجاراتها, ولا القدرة على احتساب تبعاتها؟ قد يسلم المرء بفرضية صحوة الضمير, ببلد موغل في الثراء, لكن بشره وحجره وشجره موغل في الفقر, عرضة للفاقة, لا يلوي على شيء من الملايير التي تأتي بها صادرات النفط, والتي أعلنت الإدارة الأمريكية أنها جمدت العشرات منها مسجلة باسم القذافي نفسه. لا نظن بالتالي أن بالأمر صحوة ضمير, وإلا لكانت عبرت عن نفسها من زمن بعيد, عندما كانت أموال الليبيين تصرف هنا وهناك دون وجه حق يذكر, وكانت تستوظف لابتزاز هذه الدولة الكبرى أو تلك. ما الذي جرى ويجري إذن؟ إنه برأينا, مجرد انتفاضة السلطة على نفسها, أو لنقل بالتحديد: إنها الثورة التي بدأت تأكل أبناءها... والشعب منها براء بالجملة والتفصيل. إنه ينتظر من من الضباع سيؤول إليه الأمر بالنهاية, ليعيد إنتاج السلطة ضد مصالح ذات الشعب وحقه في الحلم.