من امن الصعب التكهن الآن بمآل وتداعيات الثورتين التونسية والمصرية على المنطقة والعالم، لكن ما هو مؤكد، أن الوطن العربي يعيش مرحلة جديدة وحاسمة من تاريخه. وأول الخلاصات التي يجب الوقوف عندها أن عهد الأنظمة الدكتاتورية في الوطن العربي قد وصل إلى نهايته، فلم يعد مقبولا أن تتعايش حضارة الإنترنيت والفضائيات مع الدكتاتورية، وهذا كان واضحا منذ مدة لكن الأنظمة الدكتاتورية بالمنطقة من فرط أنانيتها واستهتارها بمستقبل شعوبها، لم ترغب قط في الوعي بهذه الحقيقة. إن المرحلة الجديدة التي وضعتنا الثورتان التونسية والمصرية على سكتها ستقطع بدرجات مختلفة مع أنظمة الحزب الوحيد والقمع وكبث الحريات والخطوط الحمراء، ولن يُقبَل أي بزوغ جديد لدكتاتوريات جديدة مهما تخفت تحت تسميات وإيديولوجيات براقة، لأن المطلوب اليوم وغدا هو أنظمة ديموقراطية تنبني على التعددية السياسية والفكرية والثقافية وتحترم مختلف حقوق الإنسان الكونية وتحتكم إلى شعوبها بشكل دوري ومستمر من أجل بلورة سياساتها وبرامجها ومخططاتها، بناء على تعاقدات جديدة ومتفق عليها، ومن أجل تحقيق عدالة اقتصادية واجتماعية وثقافية ملموسة. ملاحظة ثانية، كون الثورتين قادَهُما الشباب بشكل واضح قبل أن تنظم إليها فئات أخرى، وذلك في وجه حكام هرِمِين على هَرَمِ سلطة شاخت تماما. وفي الحالتين معا، كانت الأحزاب التقليدية في الخلف تعاني من شيخوختها وتنتظر فتح الحوار من طرف الديكتاتور لتركب على الثورة وتقطف ثمارها، لكن تطور الأحداث أكد أنها هي أيضا أصبحت متجاوزة لا يد لها في سير الأحداث. هناك ملاحظة أخرى مهمة كون ما وقع في تونس وبعده في مصر، كان من أسبابه المتعددة غياب أي تواصل بين الحكام والمحكومين، بسبب انغلاق النظامين وكبتهما لحرية التعبير والتفكير والاحتجاج. والخلاصة أن الدكتاتورية لم تعد لها أية ضمانة مهما تم الاستقواء بآلة القمع والقوى الأجنبية. وعلى ذكر القوى الأجنبية، فإن أخطر ما تواجهه هذه التحولات هو دخول قوى الهيمنة الدولية على الخط مثل إسرائيل وأمريكا من أجل إجهاضها. وبالاتجاه نحو الجنوب يأتينا درس آخر من السودان، حتى وإن كانت الأحداث المصرية قد حشرته في الزاوية، فقد اختارت الأغلبية الساحقة من السودانيون الجنوبيون الانفصال، والواقع أن هؤلاء ما كانوا سيؤيدون الانفصال لو كانت الديمقراطية سائدة في دولة السودان. لكن النظام الحاكم في هذه الدولة العربية كان مشغولا بأمور أكثر أهمية له، من شاكلة جلد صحافية لأنها تجرأت وارتدت سروال تجينز؟ والدرس الذي أعني هو أن الدكتاتورية هي الأب الشرعي للانفصال. ما أريد أن أشير إليه كذلك وأنا أتابع فصول هذه الرجة الشعبية في المنطقة، أن التجربتين اللبنانية والمغربية في تكريس الديمقراطية، قد واجهتا صعوبات جمة بسبب قيامهما في محيط هو عبارة عن غابة ديكتاتورية. فالأولى وجدت نفسها محاطة بالاحتلال الإسرائيلي من جهة، ودكتاتورية الحزب الوحيد في سوريا من جهة أخرى، في حين أن التجربة المغربية وجدت نفسها محاصرة بدكتاتوريات عسكرية وشبه عسكرية في الجزائروتونس وليبيا ومصر، وبالتالي فلا يمكن أن نزرع القمح في صحراء قاحلة. لذلك يمكنني القول أن الثورتين التونسية والمصرية سيكون لهما تأثير إيجابي على هاتين التجربتين في أفق تطويرهما نحو جوهر الديمقراطية وما يلبي طموحات الشعبين، خصوصا وأن هذه النهضة الجديدة قد بدأت تأثيراتها تنعكس على الأردن واليمن ثم الجزائر والبقية تأتي. وهناك ملاحظة بدت لي ذات أهمية في علاقة شرق المنطقة العربية بغربها، حيث يستوقفني واقع كون العديد من الأشكال الاحتجاجية التي مورست في الثورة التونسية وبعدها الثورة المصرية كانت انطلاقتها من المغرب. فأسلوب الحرق مورس في الرباط منذ سنة 2005، كما أن "المسيرة المليونية" قد عرفت منبتها الأول في المغرب منذ سنوات، سواء في مسيرات التضامن مع الشعبين الفلسطيني والعراقي والمقاومة اللبنانية، أو المسيرة الأخيرة التي تعدى المشاركون فيها المليونين والتي كان محورها قضية الصحراء المغربية. وهنا أود أن أذكر بأن حاجز الخوف لم يعد له وجود في المغرب منذ تجربة حكومة التناوب واعتلاء الملك محمد السادس العرش في البلاد. فمنذ ذلك الوقت لم تتوقف كل مظاهر الاحتجاج وأشكال التعبير من وقفات يومية أمام البرلمان ومسيرات حتى في البوادي وإضرابات في كل القطاعات. لماذا أذكر هذه المعطيات، أولا لأؤكد أن التشرذم والتمزق الذي كرسته الأنظمة الدكتاتورية العربية، لم يمنع أبدا التفاعل بين شعوبه، وثانيا للتأكيد أننا في المغرب كنا في حاجة ولازلنا لإسقاط كل الدكتاتوريات المحيطة بنا والمعيقة لتطوير تجربتنا الديمقراطية إلى مآلها المتعارف عليه دوليا، خصوصا أن اللوبي المحلي الذي كان يستقوي من جهة بدكتاتورية بن علي متذرعا بإنجازاتها الاقتصادية، كما يلوح من جهة ثانية بمؤامرات النظام الجزائري ويحول الإرهاب إلى بعبع، بهدف لجم التحولات التي يعرفها المغرب والتضييق على الحريات ما أمكن، لم تعد له اليوم أية مصداقية، وأن أفضل ما يمكن له القيام به هو الرحيل عن مواقعه في أجهزة الدولة مثلما رحل بن علي. من الواضح أن حصول الثورة الشعبية في مصر، وقبلها في تونس، سيكون له تأثير عميق على الثقافة والفكر في المنطقة والعالم. ومن باب تحصيل الحاصل القول بأن سقوط الدكتاتوريات العربية تباعا سيفتح المجال أمام ثورة ثقافية ستجعل من الإبداع الأدبي والفني والنقد الفكري والسياسي محورا أساسيا من محاور الشأن العام في البلاد العربية.