** في يوم الجمعة 17 شتنبر، توفي المحجوب بن الصديق، الأمين العام لمركزيتنا النقابية، الاتحاد المغربي للشغل، عن سن يناهز 88 عاما، بعد أن ظل زعيما لها منذ تأسيسها في 20 مارس 1955، لمدة تفوق 55 سنة. ** إن السؤال الذي تطرحه الصحافة والعديد من المهتمين، هو "من سيخلف المحجوب بن الصديق كأمين عام؟". وفي اعتقادي أن هذا السؤال يبعدنا عن الإشكالية الحقيقية التي يجب أن ينشغل بها الرأي العام الديمقراطي وخاصة المناضلات والمناضلون الغيورون على مصالح الطبقة العاملة والمقتنعون برسالتها التحررية حول أي مستقبل للحركة النقابية العمالية ببلادنا ؟ ذلك أن المشكل المطروح ليس هو استبدال زعيم بزعيم آخر على رأس الاتحاد، فهذا غير ممكن، إذ لا مكان بعد 17 شتنبر للزعيم وللزعامة في الاتحاد المغربي للشغل. وما يطرح هو التساؤل حول آفاق الاتحاد وآفاق مجمل الحركة النقابية العمالية بالمغرب. ** لقد مات المحجوب بن الصديق. ونحن نعلم أن كل من عليها فان ولا يبقى في وجدان الناس إلا من فعل خيرا يذكر به. وقد كان للراحل دورا بارزا في مسار وتاريخ الاتحاد المغربي للشغل والحركة النقابية العمالية ككل. وليس المجال هنا لتقييم هذا الدور؛ فهذا ما يحتاج إلى تفكير معمق ومجهود جماعي ما أحوجنا إليه. وقد يكون المؤتمر الوطني العاشر للإتحاد مناسبة لذلك. ** إن ما يهمني أكثر حاليا، هو التشخيص ولو بعجالة لأوضاع الحركة النقابية العمالية ولآفاق تطورها، وذلك من منطلق مناضل خبر العمل النقابي داخل الاتحاد المغربي للشغل منذ 1970 وظل داخله يدافع عن مبادئه الأصيلة المتجسدة في الوحدة النقابية والاستقلالية والديمقراطية والتضامن والتقدمية والجماهيرية.وإن فكرتي الأساسية هي كالتالي: إن الحركة النقابية العمالية تعيش أزمة عميقة؛ إن انبعاث الحركة النقابية كضرورة للنهوض بحقوق العمال، ورغم الصعوبات الناجمة بالخصوص عن افتقار الطبقة العاملة لحزبها السياسي المستقل، ممكن في ظل الشروط الراهنة؛ إن النهوض بالاتحاد المغربي للشغل شرط ضروري لانبعاث الحركة النقابية وهو يمر بالأساس عبر تعزيز الديمقراطية الداخلية والمبادرة إلى تقوية الوحدة النضالية على طريق بناء الوحدة النقابية المنشودة. ** إن الحركة النقابية العمالية المغربية تعرف أزمة خطيرة تعد إحدى الأسباب الأساسية للإجهاز على حقوق ومكتسبات الطبقة العاملة ببلادنا في السنوات الأخيرة. ويمكن إيجاز مظاهر الأزمة في: - تردي جماهيرية العمل النقابي، إذ أن مجموع المنخرطين والمنخرطات في تقديري لا يتجاوز 300 أو 400 ألف بالنسبة لكافة المركزيات النقابية، بينما كان عدد منخرطي الاتحاد المغربي للشغل 650 ألف في نهاية الخمسينات من القرن الماضي عندما كانت المركزية النقابية الوحيدة ببلادنا. - تقسيم الحركة النقابية والعبث بوحدتها. فيما ظلت الطبقة العاملة مؤطرة في مركزية نقابية واحدة منذ الإعلان عن الاستقلال وإلى حدود 20 مارس 1960، عندما قام حزب الاستقلال بإنشاء الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، هناك اليوم حوالي عشرين مركزية نقابية ببلادنا، خمسة منها تعتبر الأكثر تمثيلية من طرف السلطات الحكومية. وإن التعددية النقابية الناتجة عن التقسيم النقابي تعد مصدرا لتضارب المواقف وتعارض التكتيكات النضالية مما يسيء لمصالح الطبقة العاملة ككل. - ضعف الديمقراطية الداخلية الذي يمكن تلمسه على مستوى الأجهزة القيادية الوطنية وعلى مستوى الجامعات والنقابات الوطنية والاتحادات المحلية لهذه المركزية أو تلك. ويكفي الإشارة على سبيل المثال إلى أن الاتحاد المغربي للشغل لم يعقد مؤتمره الوطني منذ أزيد من 15 سنة وأن الكنفدرالية الديمقراطية للشغل لم تعقد مؤتمرها الوطني منذ أزيد من 9 سنوات، ناهيك عن تجميد نشاط الأجهزة المنتخبة وتغييب العمل الجماعي وتسييد مفهوم الزعامة في كافة المستويات. - تفشي قيم الانتهازية والانتفاعية والفساد وتكاثر المفسدين في صفوف المسؤولين النقابيين. - ضعف الاستقلالية وأبرز مظاهرها إزاء الأحزاب السياسية، حيث نجد وراء مجمل الانشقاقات التي عرفتها الحركة النقابية المصلحة الحزبية الضيقة. وفي هذا المجال، إذا كان الاتحاد المغربي للشغل يتوفر على استقلالية معروفة لدى الجميع، فإن جل المركزيات الأخرى (وإن كان ذلك بتفاوت) تظل تابعة لأحزاب معينة إما بشكل مكشوف أو ضمني. - ضعف التضامن النقابي على كافة المستويات من نقابة المؤسسة إلى الاتحاد المحلي والنقابة الوطنية والجامعة الوطنية والمركزية وصولا إلى التضامن للمركزيات النقابية فيما بينها. وضعف التضامن هذا، يساهم في العديد من الأحيان في تكبد الطبقة العاملة لهزائم كبرى في عدد من المعارك.- تقلص الطابع التقدمي للعمل النقابي حيث لم تعد المركزيات النقابية إلا نادرا تتخذ مواقف سياسية تقدمية من القضايا المصيرية للبلاد: الموقف من الديمقراطية المزيفة أو الشكلية، من المسألة الدستورية، من التغلغل الإمبريالي في مختلف المجالات، من اندماج المغرب في العولمة الليبرالية المتوحشة، من الإصلاح الزراعي، الخ... ** إن استمرار الأزمة التي تعيشها الحركة النقابية، وبمختلف المظاهر السالف ذكرها قد يؤدي إلى الاضمحلال التام للحركة النقابية العمالية المغربية. لهذا حان الوقت للعمل بحزم على تجاوز هذه الأزمة وهذه مهمة كافة المناضلات والمناضلين الغيورين على مصالح الطبقة العاملة أينما وجدوا، من داخل العمل النقابي – داخل هذه المركزية أو تلك – أو من خارجه. إن تجاوز الأزمة يقتضي أساسا: - تعزيز النضالات الوحدوية والوحدة النضالية في أفق الوحدة النقابية التنظيمية في إطار مركزية واحدة. وأعتقد أن النواة الصلبة للوحدة النضالية يجب تشكيلها من طرف كل من الاتحاد المغربي للشغل والكنفدرالية الديمقراطية للشغل نظرا لوزنهما في الساحة النقابية ولتاريخهما النضالي. - العمل على تعزيز استقلالية العمل النقابي، وهو ما يفترض القطيعة مع تبعية جل المركزيات النقابية للأحزاب السياسية التي دفعت إلى تشكيلها في ظروف معينة.- توسيع وتعميق الديمقراطية النقابية داخل كل مكونات الحركة النقابية العمالية بدءا بجعل حد لمفهوم الزعامة، ورد الاعتبار للعمل المنظم والديمقراطي ولمفهوم القيادة الجماعية مع التحديد الدقيق للمسؤوليات الفردية. - تخليق العمل النقابي عبر التصدي للفساد والمفسدين داخل الحركة النقابية. - رد الاعتبار لقيمة التضامن داخل مختلف الهياكل النقابية وفيما بينها، وصولا إلى التضامن بين المركزيات النقابية نفسها في أفق الوحدة النقابية. - رد الاعتبار للطابع التقدمي للعمل النقابي عبر اتخاذ مواقف سياسية واضحة من السياسات ومن القوى الرجعية المعادية لمصالح الطبقة العاملة والجماهير الشعبية. - ومن المؤكد أن تفعيل التوجهات والإجراءات السابقة سيساهم بقوة في رد الاعتبار للعمل النقابي ككل وبالتالي إلى تقلص العزوف عن النقابات وتقوية طابعها الجماهيري من جديد. وأعتقد أن الاتحاد المغربي للشغل كمركزية نقابية عمالية أصيلة وباعتبارها كذلك المركزية النقابية الأولى تاريخيا وعلى مستوى تمثيليتها للأجراء وباعتبار الأطر الصادقة، الكفأة والمناضلة التي تتوفر عليها والتي ساهمت في تعزيز الوجه المشرق لهذه المركزية هو المركزية المؤهلة بالدرجة الأولى لتلعب دورا رياديا في عملية انبعاث الحركة النقابية خاصة إذا تمكنت من وضع اليد في اليد مع الكنفدرالية الديمقراطية للشغل للاندماج بحماس في مشروع انبعاث الحركة النقابية العمالية المغربية. ** إن الشرط الأساسي لتقوم مركزيتنا بدورها الريادي في انبعاث عموم الحركة النقابية هو التصحيح الجذري لمسارها خاصة عبر: * ترسيخ الديمقراطية الداخلية بعدد من التدابير والإجراءات أهمها: - الشروع في التحضير الديمقراطي وبشفافية للمؤتمر الوطني العاشر للاتحاد المغربي للشغل الذي يجب أن يشكل البوابة نحو عهد الديمقراطية والشفافية في مركزيتنا. - القطيعة مع مفهوم الزعامة على كل المستويات سواء تعلق الأمر بالمركزية ككل أو بالاتحادات المحلية والجامعات الوطنية والفروع الجامعية ونقابات المؤسسات. فعلى المستوى الوطني يجب أن يدرك الجميع داخل الاتحاد وخارجه أنه لن يكون هناك زعيم للاتحاد المغربي للشغل بعد 17 شتنبر، تاريخ وفاة المحجوب بن الصديق. وأن العمل الديمقراطي يفرض في هذا المجال وضع أسس قيادة جماعية سواء تعلق الأمر بالأمانة الوطنية أو باللجنة الإدارية.فبالنسبة للأمانة الوطنية التي يجب أن تكون منتخبة من طرف اللجنة الإدارية وخاضعة لمراقبتها ولتوجيهات المجلس الوطني إن مفهوم القيادة الجماعية يعني أن كل أعضائها يجب أن يتحملوا مسؤولياتهم على قدم المساواة مع مراعاة متطلبات توزيع المهام والمسؤوليات الفردية؛ ففي هذا المنظور سيكون هناك طبعا أمينا عاما ونائبه أو نوابه وأمينا للمال ونائبه ومسؤوليات محددة أخرى. ودور الأمين العام الذي يجب أن ينتخبه زملاؤه في الأمانة الوطنية هو دور المنسق الجماعي الذي يجتهد أكثر من غيره لضمان تناغم العمل الجماعي. كما يجب ضمانا للتداول على المسؤوليات وتجنبا لعودة الزعامة حصر عدد الولايات في اثنتين فقط بالنسبة للأمناء العامين مع العلم أن هذا الإجراء لا يمكن أن يتم بأثر رجعي. إن مفهوم العمل الجماعي والمسؤولية الفردية يجب أن يسود على مستوى كافة الهياكل النقابية بما فيها أجهزة الجامعات الوطنية والاتحادات المحلية والفروع الجامعية ونقابات المؤسسات. - تسييد مفهوم العمل المنظم والديمقراطي بالنسبة لكافة الأجهزة: فالمؤتمرات يجب أن تنعقد في وقتها المحدد دون أدنى تأخر وباعتماد الشفافية والديمقراطية في التحضير لها وفي مسارها. كما على الأجهزة الأخرى أن تجتمع بشكل ديمقراطي منظم ومنتظم. وبالنسبة لأسلوب تشكيل الأجهزة القيادية يجب رد الاعتبار لأسلوب الانتخاب السري الذي يمكن العمل به إلى جانب أسلوب لجنة الترشيحات الذي يجب تطويره بدوره. ونشير هنا إلى ضرورة المراجعة الشاملة للقانون الأساسي وإقرار نظام داخلي. - إن مقتضيات الديمقراطية تفرض كذلك إشراك المرأة المناضلة في المسؤوليات؛ لا يعقل أن يكون للاتحاد مستقبلا أمانة وطنية بدون نساء مناضلات تبرزن المكانة الحقيقية للمرأة داخل مركزيتنا وداخل المجتمع ككل. وقد يكون من المفيد إقرار تمثيلية للمرأة في الأجهزة تصل إلى الثلث على الأقل عملا بشعار"الثلث على الأقل في أفق المناصفة" الذي رفعته الحركة النسائية الديمقراطية ببلادنا. كما أن مقتضيات الديمقراطية تفرض علينا فتح أبواب المسؤولية أمام الشباب. *تمتين الوحدة داخل الاتحاد المغربي للشغل على أساس وحدة الرؤيا للعمل النقابي وعلى أساس المصالح المشتركة للطبقة العاملة وعلى أساس الاحترام الجماعي لقيم العمل النقابي ومبادئه ولمقتضيات الديمقراطية الداخلية. إن الوحدة الداخلية على أساس الديمقراطية تشكل إحدى الرافعات لتشجيع الوحدة النقابية التنظيمية المنشودة. *وأخيرا لا بد من التأكيد على الطابع التقدمي للاتحاد باعتباره مركزية نقابية للطبقة العاملة وفي خدمة أهدافها القريبة (تحسين الأوضاع المادية والمعنوية) والبعيدة المتجسدة في القضاء على الاستغلال الرأسمالي كمصدر أساسي لويلات الطبقة العاملة وفي الطموح إلى تشييد مجتمع اشتراكي تكون فيه السلطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للعمال وعموم الكادحين. طيلة التاريخ النضالي للاتحاد حاولت بعض القوى السياسية استغلال المركزية لأهدافها السياسية الخاصة لكن محاولاتها لم تعرف نجاحا يذكر. واليوم هناك محاولة لبعض القوى الرجعية لإيجاد موطئ قدم داخل المركزية في محاولة للاستفادة من وضعيتها الانتقالية لجرها نحو اليمين ونحو خدمة الرأسمالية التبعية المرتبطة بالعولمة الليبرالية المتوحشة. ويجب أن يدرك الجميع داخل المركزية وخارجها أن كافة مناضلاتها ومناضليها خاصة التقدميين المرتبطين بالمشروع التحرري العام للطبقة العاملة لن يسمحوا أبدا بانحرافها نحو اليمين وأنهم عازمون وبكل إصرار على تعزيز طابعها التقدمي. فالطبقة العاملة ومركزيتها النقابية الأصيلة، الاتحاد المغربي للشغل، لا يمكن أن تكون وقودا في محركات القوى المعادية لمصالحها القريبة والبعيدة.