قد لا يكون من الأهمية بمكان في هذا المقام ولا في غيره, إعادة اجترار عبارات التحية والإجلال لشعب تونس, ولروح الشهيد محمد البوعزيزي وروح من سقط في أعقاب استشهاده, قتلى وجرحى وميتمين وأرامل وما سواهم. ليس من الأهمية الكبيرة ذلك. يكفي شعب تونس أنه وقف بوجه الطاغية لشهر من الزمن كاملا, وأجبره على الفرار لا يلوي على شيء, اللهم إلا ما تسنى له نهبه وسرقته من أرزاق شعب لا موارد للعيش أولية لديه, سوى عضلات وكفاءات أبنائه, وكد رجاله ونسائه. ويكفيه أيضا أنه فرض التغيير من القاعدة, لا بفضل تحرك مصطنع من بين ظهراني أركان السلطة القائمة, وفرضه دونما تأطير من نقابة أو من حزب أو من تجمع سياسي فئوي, باستثناء لربما بعض جمعيات العمل الأهلي, التي تماهى أعضاؤها بحناجرهم مع الجماهير, ورفعوا معها اللافتات والمطالب, وناهضوا الطغيان بصدورهم وبأرواحهم. اليوم, وقد تأكد أن لا أمل للطاغية في العودة للحكم, ولا حتى للوطن, اللهم إلا إذا ما تم تسليمه للقضاء ليحاسبه ويقتص منه, فإن الذي جرى منذ فراره يستدعي الاستفهام, ويدفع للخشية على انتفاضة أعطت النموذج في التضحية والصبر والاستعداد للأسوأ: + أول عنصر مثير للاستفهام متأت من طبيعة ومكونات "حكومة الوحدة الوطنية" التي تلت تكليف محمد الغنوشي بانتقاء عناصرها, بناء على ما أسفرت عنه استشاراته مع كل الفاعلين السياسيين المعترف بهم قانونا, والذين لهم تواجد بالفضاء العمومي بهذا الشكل أو ذاك. لسنا مؤهلين هنا للحكم على الشخص, شخص رئيس الحكومة "الجديد", ولا على زعماء المعارضة المشاركين معه في الحكومة. فقد يكونوا نظيفي الذمة واليد, غير ملطخين بدماء التونسيين, بعيدين بهذه المسافة أو تلك, عن الذي أو الذين طغوا, أو أمروا بظل هذه الانتفاضة, بإطلاق الرصاص على الجماهير الغاضبة دونما تردد أو رحمة. لكن الذي لا نفهمه, فما بالك أن نتفهمه, إنما السر خلف الإبقاء على رمز من رموز النظام السابق بأعلى هرم السلطة, بأغلبية وزراء من الحزب الحاكم (التجمع الدستوري الديموقراطي) اندغمت بصلبه كل مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرياضية والفنية حتى بات دولة داخل الدولة, لا بل الدولة برمتها في كل أبعادها, المادي منها كما الرمزي سواء بسواء. ثم إن الذي لم نفهمه, ولم نتفهمه أيضا بالجملة والتفصيل, هو اعتراف الوزير الأول المعين بكونه هاتف الرئيس المزاح, ووضعه في صورة ما يجري بمدن وقرى ومداشر تونس, ولكأن ذات الرئيس في إجازة عمرة, أو في مهمة خارجية تستدعي إطلاعه على مجريات البلاد أولا بأول, لحين عودته ومباشرته لمهمته بنفسه. يبدو الأمر, بهذه الواقعة, واقعة اتصال الغنوشي بالرئيس المزاح, ولكأن الوزير الأول ينكر على التونسيين انتفاضتهم, ويتحداهم لدرجة إبقاء الاتصال مع من كان مصدر محنتهم وإهانة كرامتهم. بهذه الحالة يبدو الوزير الأول وكأنه لا يزكي الرئيس السابق فحسب, وإنما يوحي بأن رحيل الرجل لا يعني بالمرة رحيل سياساته ومشاريعه, وهو ما استوجب ويستوجب, برأيه, التنسيق معه حتى وهو خارج الحكم, من باب درء المفسدة وتعظيم المصلحة, والإفادة من "تجربته" على الأقل لحين تجاوز مرحلة المحنة هاته. بكل الأحوال, يبدو الوزير الأول ولكأنه خارج سياق ما دعت وتدعو إليه الجماهير, والدليل أن هذه الأخيرة لم تفتأ تنادي بذهاب كل رموز النظام السابق, وزراء ونواب ومستشارين وعناصر حماية وأمن واستخبار وما سواهم. + عنصر التساؤل والاستفهام الثاني يرتبط بظروف وشروط ضمان الانتقال إلى ما بعد عهد الدولة البوليسية التي لطالما خنقت الأفراد والجماعات, الأحزاب والنقابات, الإعلام والثقافة والفن. من المزايدة الصرفة القول, بهذا الشأن, بأن تدبير ذات المرحلة وتصريف أطوارها بالحد الأدنى من الخسائر والضحايا, أمر هين المنال, ولا هو بالمضمون في بلد تساوت من بين أضلع أبنائه حسابات الربح والخسارة, عناصر الحياة والموت والبقاء, للأفراد والمجتمع, كما للدولة والسلطة بحد ذاتهما. من المزايدة الصرفة القول بذلك حقا. لكن هل من المفروض أن تدير عناصر النظام السابق هذه المرحلة؟ كيف لها ذلك وهي المتشربة بمنظومته, المتشبعة بثقافته, لا بل وهي التي كانت تزين له السياسات خطابا إيديولوجيا وتصريفا بأرض الواقع؟ بهذه النقطة, فإن الخشية كل الخشية, من لدن الشعب التونسي ومن لدننا كمغاربيين أيضا, أن تحمل مظاهر المرحلة القادمة وتطال جوهرها, ثقافة هؤلاء وتمثلهم لممارسة السلطة, ونظرتهم للشعب, مواطنين كاملين أم رعاع لا يفقهون. ليس لدينا وصفة لأهلنا بتونس ننصح بها, فهم أدرى بظروفهم وأعلم بسياق ما أقدموا عليه. لكننا كنا نتمنى لو تسلم أمرهم, بهذه المرحلة, مجلس إنقاذ من المجتمع المدني ومن الجيش (مع الاستعانة بأهل الدراية والخبرة في القانون ونظم المؤسسات) يضعون لتونس, بأفق الانتخابات القادمة, برنامجا استعجاليا, يصفي تركة ما فسد من النظام السابق, يعيد الروح لمؤسسات الدولة, ويطمئن الجماهير إلى أن أمورها قد باتت بين أياد أمينة, لا حسابات لديها لارتهان الحاضر والمستقبل. + أما عنصر التساؤل والاستفهام الثالث فيتعلق بالضمانات ومصدر الحماية التي من المفروض أن تضع المتاريس بوجه أي تجاوز أو انزلاق عما ضحت من أجله الجماهير, وخرجت بوجه الطغيان لبلوغه, وصدرها عاريا غير محمي بالمرة. الخشية بهذا الباب, إنما قد تأتي من شتى ضروب التحايل على مطلب الديموقراطية وسيادة قيم الحرية والحقوق والمواطنة, التي من أجلها أشعل البوعزيزي النار في جسده الطاهر, فأنار به كل ما من حوله, حكاما ومحكومين على حد سواء. صحيح أنه ليس بالإمكان استشراف مآل هذه الانتفاضة الرائدة, ومدى ما قد تحمله للفرد كما للجماعة (بتونس كما بمحيطها العربي المباشر والبعيد), لكننا نخشى مرة أخرى, أن يتم التحايل عليها بإصلاحات شكلية قد تكون ضرورية بالتقييم الأولي العابر, لكنها قد لا تبدو كافية, على المدى المتوسط والبعيد, لموازنة ما كابده الشعب التونسي طيلة أكثر من نصف قرن من الزمن, أو ما أقدم عليه بانتفاضة ببداية هذا العام, العام 2011.