الثورة التونسية النبيلة تمردت على بوصلة الشعوب التى فسدت إبرتها وتجمدت صوب اتجاه واحد، فكادت أن تنسى حقيقة الاتجاهات الأربعة، وكادت أن تفقد حق اختيار الطريق، بعد أن قبضت على عنق هذا الكوكب إمبراطورية الشر منفردة. وإمبراطورية الشر هى دولة مركز ومجموعة دول تدور فى فلكها، محكومون بمذهب فى الاقتصاد والسياسة، يديره حفنة من بضعة مئات من قراصنة المال والأحلام، تنكروا فى الماضى فى شكل بابا نويل الذى وزع اللبان الشيكلتس والكوكا كولا ووجبات كنتاكى وأفلام توم وجيرى، وأطلوا على العالم بتمثال لإمرأة تحمل شعلة أطلقوا عليه "تمثال الحرية" وراحوا - من أجل استدامة تحقيق مصالحهم الجهنمية التى لا تحكمها أية قواعد أخلاقية سوى قاعدة المنفعة - يساندوا الاستبداد هنا وهناك، ويرعوا الفاسدين فى أوطانهم، ويداعبوا احلام الشعوب فى الحرية والاستقلال، بينما شعلة تمثالهم تحرقهم، بل وتطرد وتطارد دمياتها المستبدة فى خسة لا تضارع، إذا ما أصابتها لعنة الشعوب الثائرة.رأينا مبشريهم ورموزهم فى الماضى على الشاشة الكبيرة يصوبون فوهات بنادقهم نحو رؤوس بتيجان من ريش لأشرار عرفنا بعد أن كبرنا أنهم الهنود الحمر أصحاب الأرض الأصليين، ورأيناهم بعد اغتصاب أرض وإبادة شعب، يستخدمون أسلحة الدمار فى هيروشيما ونجازاكى، ويرعون ويحمون الصهيونية الهمجية وهى تنقض على الفلسطينيين الحمر، وعرفنا زبانيتهم المزروعين ببقاع الأرض يهيمنون على قطاعات سكانية سموها دولاً مستقلة منثورة هنا وهناك فوق كوكب هذه الإمبراطورية، عصبة من حكام طغاة معزولون عن شعوبهم، يقاومون التغيير بقلوب غليظة وعقول متحجرة وقبضات دامية، كما يقاومون أزمانهم بإدعاء الخلود والرؤوس المصبوغة، ومدعى حكمة بلا ضمائر حية يغسلون الأدمغة والأموال لترويج المذهب، وجنود وكلاب وبنادق وعساكر تحرس العصبة من ثورات من تم سحقهم بأدوات الفقر والبطالة والتهميش، شبكة عنكبوتية من مصاصى دماء الشعوب تفرم الضعفاء وهى تمارس نشوتها الملعونة بتقسيم البشر إلى سادة وعبيد بعد أن قسمت مجتمعاتهم إلى فردوس وجحيم. إمبراطورية تروج لشرورها بالإغواء تارةً وتفرضها بالقوة الغاشمة مرات، أنتجت لنا علب الليل وصالات القمار وشبكات الرقيق الأبيض ودعارة الأطفال وتجارة المخدرات وأعضاء البشر الأحياء والأموات، وتمتلك فنون الدعاية المضللة ومهارات البحث العلمى المراوغ، وتروح تزرع الفتن والقلاقل بين الجيران والأصدقاء، وتمزق الأوطان إلى أوصال متصارعة، لترتفع الأسهم فى بورصة السلاح لتتراكم ثروات تجاره. والدولة المركز فى هذه الإمبراطورية من الداخل هى كما تقدمها أفلام المخرج المنشق عن زيفها "مايكل مور" وغيره من المنشقين على سفالتها، سوق منحط لصناعة وتغليف الوعى سابق التجهيز عبر وحشها الإعلامى الشرير، وتصدير الوهم بحريات لا تتحرك إلا داخل صناديق من أقدار يصنعها المخططون ويتصورها السذج من صنع الإله، والتجارة بآلام سكانها من الفقراء من خلال شركات تأمين صحى شرهة للتربح وبيع أشلاء البشر بالقطعة، وهى إمبراطورية لحفنة من أصحاب الشركات العملاقة التى باتت تحكم العالم فى طبعته العنيفة المتوحشة، وهى التى امتطت المنظمات الدولية وتحكمت فى لجامها، وزرعت العيون بكل زاوية من الأرض لحصار كل محاولات الخلاص التى قد تجرى هنا أو هناك، وهى التى تلعب مع وتتلاعب بكل أطراف اللعبة السياسية فى هذا البلد أو ذاك، تاريخها أسود فى حماية أنظمة وإسقاط أخرى دون رغبات الشعوب، ويقوم إعلامها بالتلوين بريشته الخاصة فالمقاومة تمرد إذا كانت ضد نظام صديق، وهى ثورة إذا كانت ضد نظام يستعصى على التجنيد الإجبارى داخل إمبراطورية الشر. تحية لهذا الشعب الأبى الكريم فى تونس، الذى استطاع بثورته الشجاعة أن يثبت لإمبراطورية الشر أنه لا زالت هناك شعوب تستطيع إصلاح بوصلتها، وتعرف موقعها بين الاتجاهات الأربعة.