قال الإمام ابن حزم في المحلى9/519: وقد ثبت على تحليلها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من السلف رضي الله عنهم، منهم من الصحابة رضي الله عنهم: أسماء بنت أبي بكر الصديق وجابر بن عبد الله وابن مسعود وابن عباس ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن حريث وأبو سعيد الخدري وسلمة ومعبد أبناء أمية بن خلف، ورواه جابر بن عبد الله عن جميع الصحابة مدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدة أبي بكر وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر. واختلف في إباحتها عن ابن الزبير، وعن علي فيها توقف. وعن عمر بن الخطاب أنه إنما أنكرها إذا لم يشهد عليها عدلان فقط، وأباحها بشهادة عدلين. ومن التابعين طاوس وعطاء وسعيد بن جبير، وسائر فقهاء مكة أعزها الله. وقد تقصينا الآثار المذكورة في كتابنا الموسوم بالإيصال. وقال ابن الأزرق مطأطئا رأسه، مقبلا ما مشى عليه العلماء الصادقون من تراب: إن الزعم بأن هؤلاء الأصحاب ما كانوا يعرفون التحريم، سوء أدب وانعدام ضمير، بل هو تعصب بارد، وعناد شارد.
كيف، والتحريم كان ينتشر بينهم في زمن قياسي كما حصل في شأن الخمر؟
فلماذا لم يفش تحريم المتعة يا ترى؟ ولماذا لم يجهل الصحابة تحريم لحوم السباع، بينما جهلوا ما يجب أن يعلمه العامة بل والضباع؟
إن الجماهير يدعون أن المتعة حرمت يوم خيبر أو الفتح، فهل يعقل أن يبقى النبي صلى الله عليه وسلم حيا بين أصحابه أكثر من عامين، ثم يتوفاه الله وهم لا يدرون أنه حرمها؟
ثم إن حديث سبرة، عمدة المحرمين، يدعي واضعه أن التحريم أعلن في خطبة أمام آلاف الصحابة، فقال الربيع الكذاب على لسان أبيه التابعي البريء: ( ثم أصبحت غاديا إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحجر والباب قائم يخطب وهو يقول: "يا أيها الناس ألا إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من هذه النساء، ألا فإن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا).
وهذه رواية صحيحة السند إلى الربيع الكذاب، لا إلى أبيه الذي كان عند وضعها تحت التراب.
فهل يعقل أن يكون إعلان التحريم تم في خطبة رسمية بين الجنود المخلصين، ثم يبقى أخطر قرار تتضمنه خطبة الانتصار مجهولا عند كبار أصحاب القائد من الوزراء والمستشارين والعلماء إلى زمن الفاروق؟
أجيبوا يا سادة بالمعقول، فالجاهلون بزعمكم كبار الصحابة الفحول، وادعاؤكم لا يقبله عاقل ولا مخبول.
لقد كان جماهير الصحابة يستمتعون ويفتون بالإباحة بعد الحبيب عليه السلام، فادعاء النسخ كذب أو جهالة ورب الأنام.
ولنثبت مذهب الخلفاء بالتفصيل، دون مراعاة للتفضيل:
مولانا أبو بكر الصديق رضي الله عنه: كان المسلمون يفعلون المتعة طيلة خلافة الصديق، بعلمه وإقراره، وهو ما عناه ابن حزم بقوله: (رواه جابر بن عبد الله عن جميع الصحابة مدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدة أبي بكر وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر).
وكان الصديق بمثابة الوزير الأول زمن النبوة، فهل يستحي من يراه جاهلا نسخ المتعة من خيبر أو الفتح إلى وفاته؟ وهذه الحجة على الإباحة عنده:
أخرج عبد الرزاق وأحمد ومسلم وأبو داود والطحاوي عن جابر بن عبد الله قال: كنا نعمل بها، يعني متعة النساء، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي زمان أبي بكر، وصدرا من خلافة عمر، حتى نهانا عنها. وفي رواية: تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر رضي الله عنه. وفي ثالثة: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث. وفي رابعة: استمتعنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نهي عمرو بن حريث.
وقول جابر "كنا نعمل" أو "تمتعنا"، صريح في استمتاع جماهير الصحابة مرات وكرات.
وقوله: "مع أبي بكر"، فصيح في أن الصديق كان عالما مقرا.
وروى الطبري في "تهذيب الآثار" عن ابن المسيّب: استمتع ابن حريث وابن فلان، كلاهما ولد له من المتعة زمان أبي بكر وعمر.
وروى من طريق ابنة أبي خيثمة أنّ رجلا قدم من الشام فنزل عليها، فقال: إنّ العزبة قد اشتدّت عليّ فابغيني امرأة أتمتّع معها. قالت: فدللته على امرأة فشارطها، فأشهدوا على ذلك عدولا، فمكث معها ما شاء الله أن يمكث، ثمّ إنّه خرج. فأُخبر عن ذلك عمر بن الخطّاب، فأرسل إليّ، فسألني: أحقّ ما حُدّثت؟ قلت: نعم. قال: فإذا قدم فآذنيني به، فلمّا قدم أخبرته، فأرسل إليه، فقال: ما حملك على الّذي فعلته؟ قال: فعلته مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ لم ينهنا عنه حتى قبضه الله، ثمّ مع أبي بكر فلم ينهنا عنه حتى قبضه الله، ثمّ معك، فلم تحدث لنا فيه نهياً، فقال عمر: أما والّذي نفسي بيده، لو كنت تقدّمت في نهي لرجمتك، بيّنوا حتى يعرف النكاح من السفاح».
وهذان الأثران عزاهما المتقي الهندي في كنز العمال للطبري، ولم أقف على إسنادهما، لكنهما يؤكدان ما تضمنه حديث جابر من أن المتعة كانت مرخصة زمن الصديق.
فما هو موقف الصديق بعد الذي سمعتم؟ وهل تزعمون أنه جهل ما عرفه سبرة على فرض صحبته وعدالة ابنه الكذاب؟
مولانا عثمان بن عفان رضي الله عنه:
لم يرد عن ذي النورين ما يوضح موقفه صراحة، لكننا نرجح أنه كان يبيحها انطلاقا من هذه القرائن:
أولا: قول جابر "كنا نعمل" يشمل سيدنا عثمان.
ثانيا: كان سيدنا عثمان وزيرا للشيخين، وكانت المتعة شائعة في عصرهما، ولم يثبت عنه ما يفيد الإنكار والاعتراض، فسكوته إقرار وموافقة.
ثالثا: ثبت استمتاع معاوية قبل الملك، والراجح أنه فعلها أيام سيدنا عثمان، ومعاوية كان واليا حينئذ، ولم ينكر عليه الخليفة، فيكون مقرا له.
روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن جابر قال: استمتع معاوية ابن أبي سفيان مقدمه من الطائف على ثقيف بمولاة ابن الحضرمي يقال لها معانة. قال جابر: ثم أدركت معناة خلافة معاوية حية، فكان معاوية يرسل إليها بجائزة في كل عام حتى ماتت.
وروى أيضا عن عطاء: لأول من سمعت منه المتعة صفوان بن يعلى قال: أخبرني يعلى أن معاوية استمتع بامرأة بالطائف، فأنكرت ذلك عليه، فدخلنا على ابن عباس فذكر له بعضنا، فقال: له نعم. (صححه ابن حجر في فتح الباري9/174).
وبالقرائن الثلاث، يترجح أن مذهب سيدنا عثمان هو الإباحة، وإلا فلا قول له ولا رأي، لأنه لا ينسب لساكت قول.
مولانا علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
يرى ابن حزم أن الإمام متوقف في مسألة المتعة، أي أنه لا يبيحها ولا يحرمها!
وهذه شهادة إمام كبير على أن الإمام لم يكن يرى التحريم، وأن النهي يوم خيبر ليس للتجريم.
وإذا كان ما قاله ابن حزم سليما، فتوقف الإمام دليل على انتفاء الناسخ، لأن وجوده يقتضي علمه به فإنه "باب مدينة العلم":
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب" أخرجه الحاكم والخطيب البغدادي والمزي، وصححه ابن معين والحاكم، وحسنه جماعة من الحفاظ، وخاتمتهم المحقق أحمد بن الصديق في "البرهان الجلي".
فهل يجوز أن يتوقف باب مدينة العلم في مسألة عظيمة كالمتعة، في حين يعلم سبرة المغمور نسخها ومعه المقلدون المذهبيون؟
والحق أن أبا الحسنين يجيز المتعة، تواتر ذلك عنه في كتب الشيعة، ولسنا نكذب إخوتنا في الملة، ولا نحتج بمروياتهم لاختلاف معايير قبول الروايات بيننا بمرة.
وفي مصادرنا السنية غنية وكفاية:
1 قال ابن جريج: أخبرني من أصدق أن عليا قال بالكوفة: لولا ما سبق من رأي عمر بن الخطاب، أو قال من رأي ابن الخطاب، لأمرت بالمتعة، ثم ما زنا إلا شقي.
رواه عبد الرزاق في مصنفه بإسناد صحيح إلى ابن جريج، ولولا إبهام شيخه لكان هذا الأثر صحيحا بلا خلاف، وهو كذلك على مذهب بعض المحدثين، لأن ابن جريج وثق شيخه.
ثم هو حسن بهذا الشاهد القوي: قال الطبري في التفسير: حدثنا محمد بن المثنى قال: ثنا محمد بن جعفر قال: ثنا شعبة عن الحكم قال: سألته عن هذه الآية: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} إلى هذا الموضع: {فما استمتعتم به منهن} أمنسوخة هي؟ قال: لا. قال الحكم: قال علي رضي الله عنه: لولا أن عمر رضي الله عنه نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي.
رجاله أئمة ثقات رجال الصحيحين، والحكم أدرك الصحابة، ثم هو كوفي حيث كانت عاصمة مولانا علي، وسمع كبار أصحابه، فنفيه نسخ الآية ثم احتجاجه بمقولة الإمام، يدل بوضوح على صحة الأثر عنده عن مولانا علي.
فأثر الإمام علي حسن عند الجمهور بمجموع طريقيه لزاما، وحسب القلة هو صحيح نظرا لتعديل ابن جريج لمن أخبره، ولأن الحكم تابعي كبير غير معدود في المدلسين، ولجلالة رواته. ويزيده أثر ابن عباس قوة، فصح أنه قال: رحم الله عمر! ما كانت المتعة إلا رحمة رحم الله بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلولا أنه نهى عنها ما احتاج إلى الزنا إلا شقي.
وقد انتهى علم مولانا علي إلى ابن عباس، فيكون أخذ هذا الكلام عنه.
ومحال أن يتمنى مولانا علي عدم المنع لو لم يكن عالما باستمرار جواز المتعة، وأن قرار الفاروق إداري تنظيمي بحكم إمامته.
وقوله: "لأمرت بها" إشارة خفية إلى إذنه وتسامحه، ولكن دون أمر وعزم، لأن الأمر يقتضي الحض، وذلك تهوين من شأن الفاروق لا يفعله مثل "الفتى" علي.
2 كانت المتعة شائعة أيام الصديق والفاروق، وكان مولانا علي بها عالما، فلم ينكر على الخليفتين ولا على الفاعلين، ومثله لا يقر المنكرات، فسكوته إقرار عند العقول النابهات.
3 كان أئمة آل البيت من التابعين وأتباعهم بإحسان على مذهب الإباحة، وعنهم أخذ ذلك الشيعة الإمامية وغيرهم.
وأئمة الآل أتقى وأعلم بسنة النبي وجدهم علي، من أئمة السنة أجمعين يا ولي.
وإن كذبتني فاسأل نفسك هذا السؤال: أيهم أتقى وأعلم حسب مصادرنا: موالينا زين العابدين والباقر والصادق؟ أم أئمة المذاهب السنية؟
أما لماذا ليس بين مذاهبنا السنية مذهب إمام من أئمة الذرية الطاهرة؟
فلأن "الآل" كانوا مضطهدين مشردين كالغريب، واسأل التاريخ كيف وصل مولانا إدريس إلى المغرب الحبيب، يبكيك ما لحق أحفاد المصطفى من الإبادة والترهيب.
ولست أعني هنا أن الشيعة متمسكون بمذهب أهل البيت.
بل أقول جازما: لا توجد طائفة تتبنى الميراث الفقهي للذرية الشريفة، وفقه العترة الطاهرة ضاع بين السنة والشيعة، حيث أخذت كل طائفة منه بطرف، فنرجو أن يعاد جمعه لتتوحد الأمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نتمسك بكتاب الله وعترته آل بيته، أي ما ورثته من علوم وحكمة وربانية، لا الموالاة المجردة عن الاتباع، وبشرنا بالهداية ما تمسكنا بهما جميعا حتى النخاع.
وبالجملة، فقد كان أئمة آل البيت يرون المتعة غير منسوخة، وهم أعلم بميراث النبي وابن عمه علي، بعد الخلفاء الراشدين أولي الفضل الجلي.
ومحال أن تجهل العترة سنة نبيها أو تخالف أباها عليا، فموقفها حجة على أن المتعة كانت مباحة سنة وقولا علويا.
ونذكر القراء بأن مولانا زين العابدين علي بن الحسين بن علي، سيد التابعين وبقية مولانا الحسين، الناجي الوحيد من مجزرة كربلاء، كان يقرأ آية النساء: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة).
وهكذا قرأها ابنه مولانا محمد أبو جعفر القارئ الباقر للعلم، وكذلك قرأها ابنه مولانا جعفر الصادق، عليهم السلام.
ونذكرهم أيضا بهذه الرواية الثابتة الدالة على موقف العترة من مصادرنا السنية:
روى الإمام الروياني السني عن عبادة بن الوليد بن عبادة الصامت أن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب قال: إن أهل بيتي قد أبوا علي إلا هذه المتعة حلال، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن فيها، وقد خالفتهم في ذلك، فاذهب بنا إلى سلمة بن الأكوع فلنسأله عنها، فإنه من صالح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم القدم، فخرجنا نريده، فلقيناه بالبلاط عند دار مروان يقوده قائده، وكان قد كف بصره، فقال الحسن: قف حتى أسألك أنا وصاحبي هذا عن بعض الحديث. قال له سلمة: ومن أنت؟ قال: أنا ابن محمد بن علي بن أبي طالب. قال: ابن أخي، ها إذن، ومن معك؟ فما الذي تسألاني عنه؟ قال له الحسن: متعة النساء. قال: نعم، أي ابن أخي اكتما عني حديثي ما عشت، فإذا مت فحدثا، فإن شاءوا بعد ذلك أن يرجموا قبري فليرجموه، أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فعملنا بها حتى قبضه الله، ما أنزل الله فيها من تحريم، ولا كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا فيها من نهي.
قال الأنجري، كان الله له ولمخالفيه: محمد بن علي هو ابن الحنفية زوجة مولانا علي بعد وفاة الطاهرة فاطمة بنت الرسول، أم الحسن والحسين عليهما السلام، حشرنا الله معهما في الجنة بعد يوم الزحام، قولوا: آمين يا إخوة الإسلام، فإنهما سيدا الجنة في قول خير الأنام.
وقول الحسن بن محمد: "إن أهل بيتي قد أبوا علي إلا هذه المتعة حلال" يقصد به أهل البيت من ذرية عميه الطاهرين، وفي مقدمتهم زين العابدين وريث الحسين. فثبت أن التابعين من العترة يرون المتعة حلالا في الشتاء والخريف، ويجتهدون في الإقناع بحليتها حماية للشريعة من التحريف، على يد الأمويين أولي الضلال والتجديف.
وسؤال الحسن بن محمد لقدماء الصحابة، أصله: (ولكن ليطمئن قلبي) يا أمة الإجابة، فلا يستغله للمشاغبة إلا مقلد الحطابة، ولا يلتفت إليه من زالت عن سماء قلبه ظلمات الضبابة.
أجوبة عقلانية على اعتراضات صبيانية:
عندما تكون الاعتراضات غير موضوعية، فهي صبيانية، لا يلجأ إليها أولو الألباب النورانية، إلا إذا كانوا جاهلين معذورين بالأمية، وهاك اعتراضات المحرمين على ما نسبناه ليعسوب الأمة بطوائفها الشيعية والسنية؟
الاعتراض الأول: سيحتج بعض الناس علينا كما احتج من سبق من العاطفيين بما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث الحسن وعبد الله ابني محمد بن علي عن أبيهما عن مولانا علي أنه سمع ابن عباس يلين في متعة النساء فقال: مهلا يا ابن عباس! فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية.
وجاء في رواية تقطع الطريق على من ادعى، أن النهي عن الحمر الأهلية كان يوم خيبر، وأن النهي عن المتعة كان بعدها: (نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن خيبر حين نهى عن لحوم الحمر الأهلية).
هذا الحديث أصح أدلة المحرمين، وبه أخذ من ضعف حديث سبرة، كالإمام الشافعي ومن على طريقته في التفكير.
وهو حديث مروي من طريق الحسن وعبد الله ابني محمد ابن الحنفية حفيدي مولانا علي.
وبناء عليه، يزعم بعض علمائنا أن المتعة حرام عند مولانا علي بدليل أنه مر بابن عباس، وهو يفتي الناس بجوازها، فوقف عليه وقال له إن رسول الله نهى عنها يوم خيبر.
وهذا الذي فهموه تعسف لا يراعي القرائن الدالة على إباحة المتعة عند الإمام.
وقد أحسن ابن حزم إلى نفسه لما اعتبر الإمام متوقفا لا رأي له، ولم يزد على ذلك.
ونجيب على احتجاجهم بحديث خيبر بهذه الأجوبة المقنعة للمنصف، الرادعة للمذهبي المتعسف:
الجواب الأول:
تقدم أن أئمة آل البيت كانوا يرون المتعة حلالا، وأنهم كانوا يعرفون حديث النهي يوم خيبر، وأنهم أعرف بمواقف جدهم.
فهل يعقل أن يكون مولانا علي قصد الاحتجاج بحديث خيبر على التحريم والنسخ بعد الإباحة، ثم تخالفه ذريته؟
كلا ورب الكعبة، فهم أتقى وأورع وأعلم من علماء الدنيا كلها، ولو كره المتعصبون.
الجواب الثاني:
كان الإمام علي مع رسول الله، قريبا منه يوم حنين وأوطاس، بل كان من القلة الثابتة حينئذ، أي أنه كان عالما باستمتاع الصحابة أيام حنين، فهل يعقل أن يحتج بحديث خيبر على التحريم؟
كلا ورب الأرض والسماء، بل احتج به على أمر آخر سيأتي.
إن احتجاجه أكبر صفعة لمن يكذب على الله ورسوله، فيدعي أن المتعة حرمت يوم فتح مكة أو بعدها، فلو كان ذلك لاحتج به مولانا علي ولم يحتج بحديث خيبرالمتقدم بأعوام.
الجواب الثالث:
آية المتعة نزلت بعد فتح مكة كما أثبتنا في الأجزاء السابقة، ومولانا علي أعلم الصحابة على الإطلاق بالقرآن وتأويله، فقد بشره النبي بأنه سيقاتل العرب على تأويل القرآن بعد أن قاتل هو على تنزيله.
وتقدم أن ذريته الطاهرة كانت تقرأ الآية بزيادة (إلى أجل مسمى)، وذريته لم تأخذ القرآن إلا عنه.
فهل يتجرأ مؤمن على القول بأن مولانا عليا، الذي كان حاضرا عند نزول الآية، لم يكن يدري مضمونها أو تاريخ نزولها؟
وهل يقبل عاقل أن يحتج "باب العلم" بحديث خيبر المتقدم تاريخيا على الآية، حتى ولو كان صريحا في التحريم؟
الجواب الرابع:
إذا كانت المتعة محرمة منذ خيبر، فالواجب يقتضي قيام مولانا علي بإنكارها على عهد الصديق والفاروق، ولو أنكرها لنقل خبره وتواتر، لأن معارضة مثله لا يمكن نسيانها أو إخفاؤها.
فلماذا سكت يا ترى، هل كان جاهلا؟ أم خائفا وجلا الجواب الخامس: يتعمد بعض العلماء إخفاء الحقائق نصرة لمذاهبهم، فلا يذكرون أن النبي نهى يوم خيبر عن عدة أشياء، بعضها مباح كأكل الثوم، لأن ذكره ينسف دعوى تحريم المتعة، فيفضلون التدليس، ولن نسكت فنكون من جنود إبليس: روى البخاري في الصحيح والطحاوي في الآثار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن أكل الثوم، وعن لحوم الحمر الأهلية. فهل تزعمون أيها المخالفون أن أكل الثوم حرام؟ وهل تجدون في الحديث قرينة تفرق بين النهي عن الثوم والنهي عن المتعة؟ وهل تستطيعون نسبة تحريم أكل الثوم لسيدنا ابن عمر، لروايته الحديث، كما نسبتم تحريم المتعة لمولانا علي؟ وهل كان الإمام أقل علما منكم ففهم التحريم من النهي المجرد، بينما فرقتم أنتم بين النهي عن الثوم والنهي عن المتعة بدون قرينة؟ كلا ورب البرية. ولا حجة لكم في الاستدلال على التحريم باقتران النهي عن المتعة بالنهي عن لحوم الحمر الأهلية، لأن النهي كان عن تلك الأمور مجتمعة في وقت واحد، ولاختلاف الصحابة في علة النهي عن الحمر على أكثر من ثلاثة أقوال، فرأى بعضهم أن النهي راجع إلى حاجة المسلمين يومئذ لركوبها وحمل أثقال الغنائم عليها، ورأى آخرون أنها كانت من الغنائم، فسارع بعض الصحابة إلى نحرها قبل أن تقسم، فنهاهم القائد العام عن الأكل لأنها تدخل في الغلول المحرم. وبالنسبة للمتعة، فنساء خيبر يهوديات، واليهود لا يجيزون المتعة، فاحترم النبي صلى الله عليه وسلم معتقداتهم، ومنع المتعة عسكريا تنظيميا لا تحريما، بدليل ترخيصه فيها بعد ذلك. إن هذه الأجوبة، تجعل المنصف يقطع بأن مولانا عليا لم يحتج بحديث خيبر على التحريم والنسخ، بل على أمر آخر، فما هو؟ كان سيدنا عمر خليفة عادلا مجتهدا، فكان من حقه أن يمنع المباح درءا للمفسدة وجلبا للمصلحة العامة حسب اجتهاده. وكان ابن عباس ينكر قرار الفاروق بشأن المتعة، ويقول فيما صح عنه، ووثقناه سلفا: رحم الله عمر! ما كانت المتعة إلا رحمة رحم الله بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلولا أنه نهى عنها ما احتاج إلى الزنا إلا شقي. بل كان يدعو إلى التمرد على المنع العمري، ويحرض على المتعة في الأماكن العامة، كما جاء صريحا في روايات نقاشه مع مولانا علي. وكان الخليفة الرابع يدرك ما لا يدركه ابن عباس العالم، فاحتج الإمام بحديث خيبر دفاعا عن أحقية الفاروق في منع المتعة استنانا بمنع النبي لها يوم خيبر، فهو يقول لابن عباس بأسلوب العلماء الراسخين: إذا كان الفاروق منع المتعة المباحة، فإنه ليس مبتدعا ولا جائرا، لأنه حاكم يحق له القيام بذلك اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي منعها يوم خيبر من باب التصرف بالإمامة. وهذا التفسير، هو الجمع الوحيد الممكن بين الروايات الدالة على جواز المتعة عند الإمام علي، وبين استشهاده بحديث خيبر، بل هو التوفيق القادر على رفع التعارض عن نصوص الشريعة الواردة في المتعة. وهو تفسير مؤيد بهذا البرهان العقلي الشرعي: لقد استمر ابن عباس على القول بحلية المتعة بعد مناقشته للإمام، ولو كان استدلاله بحديث خيبر على التحريم، لا على حق الخليفة الشرعي في منع المباح، لتراجع ابن عباس عن رأيه في الإباحة بعد نقاشه مع ابن عمه، فإنه عنده صادق مصدق. والواقع المتواتر أن ابن عباس ظل يفتي بجواز المتعة بعد نقاشه مع الإمام علي حتى مات: ففي صحيح مسلم وغيره عن عروة بن الزبير أن عبد الله بن الزبير قام بمكة فقال: إن ناسا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم، يفتون بالمتعة، يعرض برجل في رواية: يعرض بابن عباس فناداه فقال: إنك لجلف جاف! فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له ابن الزبير: فجرب بنفسك، فوالله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك. قلت: كان عبد الله بن الزبير، حاكما على الحجاز حين حدوث هذا النقاش الدال على ضعف حجته، وصلابة ابن عباس في الحق رغم تهديد الأمير، لأن الأمر دين لا يصمت عنه أسد نحرير. وقول ابن الزبير "كما أعمى أبصارهم" يشير إلى أن ابن عباس كان قد عمي. وقد انتهت القصة بينهما بالاحتكام إلى سيدتنا أسماء أم ابن الزبير، فشهدت لابن عباس وحذرت ابنها من الاعتراض عليه، وأوضحت له أن السلامة في الصمت إذا نطق الحبر، فدخل ابن الزبير بعد ذلك (سوق رأسه). أعتذر عن استعمال هذا التعبير العامي، فالمقام يستحسنه ترويحا على القارئ المخالف والمحامي. ورضي الله عن سيدنا ابن الزبير وأبيه وأمه خير الناس، ومن يحتج بقوله الأول في معارضة الحبر ابن عباس، فهو مصاب بفيروس الوسواس الخناس. وبعد، فهل يجوز أن يكون النهي عن المتعة يوم خيبر نهيا تحريميا تشريعيا، ثم يجازف ابن عباس بدينه فيعاند ويكابر؟ وهل نحن مسبوقون بابن عباس إلى أن النهي يوم خيبر لم يكن تحريما بل إدارة وسياسة؟ وهل نقدم فهم العلماء المتأخرين على فهم ابن عباس شمس المجتهدين؟ أجيبوا يا قوم بالحق والوضوح، وإن أمعنتم في العناد المفضوح، فاسمعوا الصرامة من الصوت المبحوح: قول مولانا علي: "لولا أن عمر رضي الله عنه نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي" صريح في اعتقاده جواز المتعة، فلا يحتمل إلا هذا المعنى. أما احتجاجه بحديث خيبر فيحتمل أنه احتج به على النسخ، أو على جواز منع المتعة من قبل الحاكم كالفاروق، فهو غير قطعي الدلالة. وما احتمل وجها واحدا كان راجحا مقدما، وما احتمل واحتمل، سقط به الاستدلال. هل تؤمنون بهذه القاعدة؟ فاحترموها إن كنتم مبدئيين، وطبقوها على مسألتنا يظهر لكم النور المبين.
أما أنا والعقلاء فنقول: هيهات يبلغ علم الشافعي رحمه الله عشر ما علمه هؤلاء. أما جملة: "إنك امرؤ تائه"، فتعني المتحير الضال، وقد وردت في صحيح مسلم وغيره، وأقسم بالله ربي أنها زيادة منكرة مكذوبة من قبل المتعصبين عمدا أو سهوا، إذ لا يليق بمولانا علي أن يقولها في حق حبر الأمة، وليس فوقها شتيمة جارحة. والعبارة اللائقة بالإمامين هي ما جاء في صحيح مسلم أيضا: مَهْلاً يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْهَا يَوْمَ خَيْبَرَ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ. واعلم أن الإمام مالكا روى الحديث في موطئه عن شيخه ابن شهاب الزهري عن الحسن وعبد الله ابني محمد دون تلك الشتيمة، وهكذا هو في صحيح البخاري. وطرق الحديث مدارها على الإمام الزهري الراوي عن الحسن وعبد الله ابني محمد، فهو بريء من نسبة تلك الزيادة المنكرة الموضوعة عليه وعلى شيوخه. فلا تغتر بورودها في المتابعات عند مسلم رحمه الله، فإنه لم يكن ينتقي الروايات كشيخه البخاري، وكتابه ليس قرآنا متواترا، فنصر على أنها مختلقة موضوعة، وأن واضعها ناصبي أراد الإساءة إلى جدي الشرفاء معا. ووجود الزيادات الشاذة أو المنكرة بل والمكذوبة في صحيح مسلم الحافل، لا ينكره إلا مكابر أو جاهل، ولا يضر الكتاب عند الخبير العاقل، فالأصل في أحاديثه الصحة يا غافل، حيث يخرج الأصل الصحيح ثم يتبعه بالشواهد والمتابعات عن الثقة والمائل، وهذا مقرر في مقدمته معروف عند الأواخر والأوائل، فلا تنكر علينا بالكذب العاطل والزعم الآفل. وإذا كنتم تقبلون تلك الزيادة الشنيعة، فقائلها عند الربانيين ليس عليا صاحب الخصال الرفيعة، بل هو علي سفيه ذو خلال وضيعة، فاربؤوا بأنفسكم عن المرويات المنحطة الصريعة. الاعتراض الثاني: يزعم المحرمون أن مولانا عليا لم يعارض قرار الفاروق عندما منع متعة النساء، ولم يأمر بها لما ولي الخلافة، فدل ذلك على فهمهم أنها محرمة عنده. وهذا اعتراض الصبيان، إليك البيان: الجواب الأول: كان مولانا علي حريصا على عدم مخالفة قرارات الخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، أدبا معهما، وحرصا على وحدة المسلمين، وخشية استغلال خصومه كأهل الشام لأي مخالفة تصدر منه لهما. أي أن ظروفه السياسية والعسكرية كانت تمنعه من تنفيذ آرائه المخالفة لمن تقدم عليه، حيث كان الجماهير يعتبرون اجتهادات الشيخين عليهما الرضوان، قمة الحكمة والصواب، ومن هنا كانت العامة مرحبة بالثورة على نظام مولانا عثمان، لأنه انحرف في نظرهم عن سيرة من قبله. ولو أن الإمام عليا خالف ما استقر من إجراءات الشيخين كمنع المتعة، لانفض عنه غالب المبايعين له، والتحقوا بالمتمردين عليه، أو اختاروا مسارا آخر. وبين أيدينا براهين على ما نقول: البرهان الأول: كان غالب المسلمين يميلون إلى استخلاف مولانا علي بعيد سيدنا عمر، لكنه رفض شرط الحكم بسيرة الصديق والفاروق، وحق له لأنه مجتهد لا مقلد، بينما قبل ذو النورين الشرط، فبايعه المسلمون. فتعلم الإمام الدرس، فكان يتحاشى مخالفة الشيخين عند توليه، وهذا المثال الأوضح: كتب النبي عليه السلام لنصارى نجران كتابا، بخط مولانا علي، أن لا يجلوا من بلادهم، فأجلاهم سيدنا عمر لما كثروا خوفا على المسلمين، وكان إجلاؤهم بطريقة مشرفة لكنهم كانوا كارهين. فلما استخلف مولانا علي، سأله النجرانيون العودة إلى بلدهم بالجزيرة، فرفض مخالفة الفاروق، وقال لهم: ما قدمت لأحل عقدة شدها عمر بن الخطاب رضي الله عنه. في رواية: إن عمر كان رشيد الأمر، فلا أغير شيئا صنعه عمر. وكان الناس يقولون: لو كان الإمام طاعنا على عمل من أعمال سيدنا عمر، لطعن في إجلائه لأهل نجران، لأنهم كانوا يملكون عهد النبي صلى الله عليه وسلم بخطه، حتى إنه بكى لما أظهروه. وهذه واقعة صحيحة رواها ابن أبي شيبة وأحمد في الفضائل، والبيهقي، وغيرهم. ولسنا نشك في أنه رفض طلبهم سدا للذرائع التي قد يستغلها المتمردون الحيارى، إذ لو قبل لأشاعوا أنه يوالي النصارى، ويتعمد الإساءة إلى الخيارى. فلما لم يفعل، كان ذلك أمارة على أنه لن يخالف الفاروق فيما هو دون قضية نصارى نجران، كمتعة النساء للعطشان. وكان الإمام يكتفي بالإشارة إلى موقفه منها بكلامه المتقدم. البرهان الثاني: صح في الإبانة لابن بطة، عن محمد بن إسحاق صاحب السيرة أنه قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي: أرأيت عليا حين ولي العراق وما كان بيده من سلطان، كيف صنع في سهم ذي القربى؟ قال: سلك به والله طريق أبي بكر وعمر. قلت: وكيف وأنتم تقولون ما تقولون؟ قال: أما والله ما نقول غير هذا، وما كان لأهله أن يصدروا إلا عن رأيه ولا يقولوا بغير قوله، ولقد كان يكره أن يدعى عليه خلاف أبي بكر وعمر رحمهم الله. ه الجواب الثاني: سكت الصحابة عن كثير من قرارات الفاروق، لأنه كان شديد الصرامة، وخشية ظهور الفتنة بمقتله، وهكذا لم يعلنوا مخالفته، في متعة الحج مثلا، إلا بعد استشهاده. أما مولانا علي، فكان متهما من قبل الرعاع منذ تأخره عن مبايعة الصديق، فتحاشى مخالفة الفاروق في القضايا الاجتهادية، وكان شعاره: "لأسالمن ما سلمت أمة محمد". ثم إن الفاروق لم يحرم المتعة كما تكذبون عليه، بل أوقف العمل بها اجتهادا وإدارة، ومن حق الإمام أن يجتهد في تنزيل الأحكام الشرعية، وإذا عزم على أمر، وجب على الرعية أن تطيع، ومنها الإمام علي. فسكوت الصحابة، ومعهم الإمام، عن قرارات الفاروق، لا يقتضي أنهم موافقون له، أو خائفون. هذا، وتعلمون أن الفاروق منع متعة الحج ومتعة النساء في خطبة واحدة، ولم يتمرد على قراره أي من الصحابة، فهل متعة الحج عندكم محرمة منسوخة؟ واعلموا أن مولانا عليا وسيدنا أبي بن كعب، هما الوحيدان اللذان تجرءا على الفاروق، فأنكرا عليه منع متعة الحج، فأبان لهما أن قراره إجراء تنظيمي ليس إلا، فأقراه. فالإنكار عليه في متعة الحج، إنكار ضمني عليه في متعة الفرج، وإقراره باجتهاده في التعبدية، إقرار منه باجتهاده في الجنسية. أو يقال: سكت مولانا علي عن متعة النساء، لأنها أمر دنيوي من حق الحاكم أن يمنعه، أما متعة الحج فعبادة لا يجوز لأحد منعها ولو كان خليفة عادلا كالفاروق. روايات مكذوبة للتشويش على مذهب الإمام في المتعة: اختلق المتعصبون متونا ساقطة، نسبوها إلى مولانا علي، فننبه عليها قبل أن يحتج بها العاطفيون: الرواية الأولى: روى الحافظ البزار عن محمد بن الحنفية قال: سألت عليا عن المتعة، قال: نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المتعة حرام. وهذه الرواية واهية سندا، منكرة متنا، رواها أبو سعد البقال الواهي المدلس المضطرب المخالف للثقات، صاحب المنكرات، ثم فيها عبيد الله بن محمد شبه المجهول. الرواية الثانية: روى أبو عوانة من طريق عبد الوهاب الثقفي عن يحيى الأنصاري عن مالك عن ابن شهاب أن الحسن وعبد الله ابني محمد بن علي عن أبيهما عن علي بن أبي طالب قال: "حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم متعة النساء يوم خيبر". قلت: لفظ "حرم" شاذ غير محفوظ، محرف عن "نهى"، فالذي في الموطأ والصحيحين وباقي المصادر، من رواية يحيى الليثي وابن قزعة وابن وهب وبشر وسفيان وغيرهم من أصحاب مالك عنه عن ابن شهاب عن الحسن وعبد الله عن أبيهما عن سيدنا علي أنه استعمل عبارة "نهى"، وليس حرم، وكذلك رواه أقران مالك عن الزهري كمعمر وسفيان وغيرهما. وشتان بين "نهى" و"حرم". والتحريف مصدره سوء حفظ عبد الوهاب الثقفي، الذي اختلط قبل موته بثلاث سنين. ومما يؤكد فساد حفظه للحديث، اضطرابه في تاريخه، حيث جعل غزوة حنين مكان غزوة خيبر، في طريق صحيح إليه عند النسائي والفسوي، بنفس الإسناد عن يحيى الأنصاري عن مشايخه. وقد أنكر عليه الحفاظ ذلك، فقال الفسوي: أصحاب الزهري كلهم يقولون خيبر، وكذلك قال مالك في الموطأ، وهو الصحيح يوم خيبر. وفي تلخيص الحبير لابن حجر: يوم حُنَيْن، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَصْحِيفٌ مِنْ خَيْبَرَ، وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ عَبْدَ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيَّ تَفَرَّدَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ بِقَوْلِهِ: حُنَيْنٍ.ه قلت: سواء كان تصحيفا أو تحريفا، فالمحدثون يعترفون بوقوع عبد الوهاب الثقفي في الغلط. فتأكد أنه لم يجود الحديث، فحرفه وتناقض. الرواية الثالثة: روي عن مولانا علي بن أبي طالب أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة. قال: وإنما كانت لمن لم يجد، فلما نزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة نسخت. في رواية: فلما نزل النكاح والطلاق والعدة والميراث نهى عنها. قلت: هذه رواية منكرة، وردت من طريقين ضعيفين جدا، لا ينجبران، رواهما الدارقطني والطبراني والبيهقي. والمتن ساقط، لأن الأمور المذكورة شرعت قبل المتعة، فواضعه كذاب أحمق. الرواية الرابعة: روى ابن شاهين في ناسخه من طريق عبد الله بن سليمان عن شيخه أحمد بن محمد بن عمر اليمامي بسنده إلى مولانا علي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء، ويقول: هي حرام إلى يوم القيامة. قلت: هذه رواية موضوعة والله، فعبد الله بن سليمان ابن أبي داود السجستاني، وشيخه أحمد بن محمد اليمامي، متهمان بالكذب، موصوفان بالوضع، فلا شك أن الجملة الأخيرة من افتعال أحدهما. خاتمة: مذهب مولانا أبي بكر في المتعة هو الإباحة، ثبت بروايات في غاية الصحة والصراحة. موقف مولانا عثمان غير صريح، لكنه يدرك بالقرائن والتلميح، لذي العقل الرجيح. حديث خيبر لا يدل على التحريم، قاله جمهور صحابة النبي الكريم، في مقدمتهم مولانا علي وابن عباس العليم، وعليه سائر العلماء مصححي حديث سبرة بن معبد، مدعي النسخ يوم الفتح الأمجد، ومنهم ابن حزم في المحلى، و ابن حجر في فتح الباري المجلى، وابن القيم في الزاد المعلى. وقد شارفت كلمات المقال المحسوبة على التمام، والمتعة مشروعة عند الفاروق المعدود في العظام، لكن أخباره متشعبة كثيرة، فنفردها بمقالة مفصلة مثيرة، فترقبوها بإذن الكريم الوهاب، فإنها شمس تمحو الضباب. خريج دار الحديث الحسنية [email protected]