وسط ملابس نسائية تقليدية مستعملة ومرتبة بعناية، وصوف معلق مختلف الألوان، تجلس الحاجة فتيحة متربعة على عرش محلها بسوق الغزل بالمدينة العتيقة في مراكش (جنوبي المغرب). تحرص هذه السيدة الستينية على إبراز القفاطين المزركشة والجلابيب النسائية المطرزة، تستقبل زبوناتها بابتسامة ومرح أهل المدينة الحمراء، لكن أيضا بحنكة التاجرة الماهرة التي تحاول الإقناع بأصالة السلع وجودتها. تقول هذه البائعة الحاذقة، كما يحلو لصويحباتها مناداتها، للجزيرة نت "ورثت التجارة في السوق النسائي عن أمي رحمها الله، التي تولت مسؤولية الأسرة بعدما فقدنا والدي، وكان عمري أربع سنوات، وببركته ربيت أولادي أيضا، وما زلت". ومن "مكر التاريخ"، كما يعبر عن ذلك أهل المدينة، أن يتحول هذا السوق من مكان نخاسة يتحكم فيه بأعناق النساء، إلى فضاء تتحكم في دواليبه نساء حرائر؛ فالسيدة فتيحة تحسب من بين أكثر من خمسين امرأة تمتهن التجارة فيه بشكل دائم. وما يميز سوق الغزل عن باقي أسواق المدينة التاريخية أنه ما يزال يحافظ على شكله الهندسي القديم المغلق على شكل فندق بأعمدته البسيطة. كما يلاحظ إبراهيم أيت أيزي الباحث في التاريخ، في تصريح للجزيرة نت. ويضيف أن الصوف الخام والمغزول كان يباع في النصف الأول من النهار، في حين كانت تجارة الرقيق تنشط بعد الظهر. لكن ما يغلب على السوق الآن هو عرض الملابس التقليدية المستعملة في المحلات الدائمة بشكل مميز، وأضيفت إليها بعض القطع من الملابس العصرية، وقدر قليل من الصوف المغزول. فعلى طول منصات الحوانيت المرتفعة، تتربع النساء التاجرات غير آبهات بأحاديث جاراتهن الجانبية؛ كل ما يشغلهن هو أن يكون حديثهن على قدر عال من اللباقة، وحسن الأدب مع الزبونات. ويقول الحاج محمد بلعروسي، وهو أقدم منتخب بالمدينة القديمة ورئيس سابق لمجلسها "عرف السوق بتجارة العبيد، والإماء على وجه الخصوص". ويوضح للجزيرة نت أنه "لم يكن هناك أي تخطيط مسبق ليصبح الآن خاصا بتجارة الملابس من قبل النساء". في السوق محلات دائمة تشغلها نساء، وفي وسطه ساحة تعرض فيها سيدات زائرات بضائعهن ،قد تكون قميصا أو سروالا أو حتى طاقية. ويشرح بلعروسي "عرف السوق بلجوء النساء الفقيرات إليه من أجل بيع بعض العطايا المقدمة لهن من الجيران، والتي تكون في أغلب الأحيان ملابس نسائية مستعملة (تكشيطة/طقم من قطعتين، قفطان، جلباب)، لكنها ذات قيمة رمزية ومجتمعية". حين تقترب من إحدى الزائرات وبيدها "قفطان عرسها"، أو "هدية من جارتها"، أو "قميص زوجها" كما تقول "لا تقدر أن تساومها فيه وتشتريه منها، فهي تحكي قصته وتعرضه بثمن زهيد"، كما تقول إحدى الزبونات. وتبين الحاجة فتيحة "أن أغلب هؤلاء التاجرات العابرات ضاقت بهن الدنيا بما رحبت، ولم يجدن ملجأ إلا بعض ملابس دولابهن، فيدخلن مهمومات، ويخرجن وقد فرج الله عنهن". وتضيف -وهي التي لا تنفك خلال الحديث عن حياتها المهنية عن حمد الله وشكره على نعمه- أن "السوق يمنحني الأمان ويغنيني عن السؤال مثلي مثل عدد وافر من النساء المستضعفات بالمدينة". الحديث مع التاجرات سهل ممتع، فهن محترفات الكلام المعسول في عالم البيع والشراء، لكنهن في الوقت ذاته متحفظات عن ذكر أسباب إقدامهن على التجارة وسط تساؤلات الزوار. قول واحد يجمعهن تقريبا عندما تذكرهن بماضي السوق، إذ تقول الحاجة فتيحة كأنها تتحدث بلسان الجميع "يعصرنا الألم، حين نتذكر أن في هذا السوق يباع اللحم البشري، بما في ذلك فتيات صغيرات جدا في السن". ويشير الباحث أيت إيزي إلى أن تجارة القوافل ازدهرت في المغرب قبل عدة قرون، خاصة في عهد السلاطين السعديين، واستمرت رائجة بالمدينة حتى أوائل العشرية الثانية من القرن العشرين. حين تسمع الحاجة فتيحة السيدة المراكشية كلمتي "سوق ونخاسة" يقشعر بدنها وتتحسر على ما كان، وتغلب عليها الرغبة في البكاء كما تعبر عن ذلك متأثرة: "لكن ذلك الماضي انتهى، ونحن في زمن جديد بهواء جديد". ولم تعد السلعة التي كان الدلالون يطوفون بها "قطع لحم بشري كما في الماضي"، أو "مجرد ملابس مستعملة حاليا". بل أصبحت في بعض الأحيان نفائس من الملابس المغربية، يتنافس على التنقيب عليها "الذواقات" من عارضات الأزياء، وصانعو الملابس الحديثة، كما توضح الحاجة فتيحة وهي تعيد ترتيب ما عبثت به يد زبونة تبحث عن قفطان مناسب. ويفيد بلعروسي -مستندا إلى ذاكرة تعود لأكثر من ستة عقود- "مرت من هنا تحف وهدايا، تعود لأميرات أو زوجات وزراء". "ومثل أي سوق للأشياء القديمة تطور ليصبح على ما هو عليه الآن، يقبل عليه ذوو العشق وأصحاب الذوق من أجل التنقيب عن نفائسه"، كما يعبر عن ذلك المسؤول في المدينة. وتقول الحاجة فتيحة "هذا سوق المساكين، لكن يزورنا أيضا السياح من كل البلدان، وخياطات من أجل البحث عن أنواع أصيلة من تفصيلات الثوب والتطريز". وتحكي السيدة جوهرة -وهي من المواظبات على ارتياد السوق- "نوصي البائعات عن كل قطعة جديدة، نعلم أنها قد تظهر وفيها ذوق رائع، وأبدعتها أنامل الخياطات والخياطين التقليديين". وتضيف جوهرة -التي تقدم نفسها بأنها مصممة أزياء- للجزيرة نت "الأشياء القديمة تلهمنا، والتاجرات لهن حس خطير في اكتشاف الأصيل من اللباس التقليدي". وتتابع الحاجة فتيحة "في تجارة الحلال بركة، وهي مصدر دخل إضافي لي وللأسرة كاملة". وتختم وهي تواصل حمدها وشكرها لله "ها أنا في سن التقاعد –تبتسم- وما زلت أكسب بهذه التجارة قوت يومي، وقد أورثها لإحدى بناتي".