ظلت المتاجرة في الأجهزة والملابس والتحف القديمة بالمغرب محصورة بين فئات قليلة تتعلق ببيع التحف كالتماثيل والأواني النحاسية ، والمنحوتات الخشبية التي كانت تعرض في البازارات وكان المغاربة يعتقدون أنها معروضة للسياح فقط ، وقلما اقتنى المغربي ملابس أو تجهيزات منزلية مستعملة ، بل وقلما باع المغربي أغراضه ، فتجد سطوح المنازل أو بعض الأركان في البيت تعج بالمتلاشيات التي لا يستعملها ولكنه يحتفظ بها ، فكان من العيب بيع الأمتعة القديمة ، كما كان المغاربة ينظرون لمن يتبضع من ( البالي أو الجوطية ) نظرة احتقار ، ويخجل المرء إن انكشف أمام زملائه يرتدي بذلة مستعملة .... لكن اليوم انقلبت كل القيم فأصبحت المتاجرة في الأجهزة المستعملة تجارة قائمة بذاتها ، بل ربما تكاد تتفوق على تجارة الجديد في بعض القطاعات ،فأصبحت لكل مدينة أسواق متخصصة في بيع القديم : قطع غيار ،أحذية ، تجهيزات منزلية ، أدوات إليكترونية ، ألعاب أطفال ،ملابس ، وفي الملابس ظهرت تخصصات ، ( ملابس النساء ،الرجاء ، الأطفال ، المعاطف ، الجوارب الملابس الداخلية ملابس السباحة ، الملابس الرياضية ...) وفي جولة بمدينة آسفي ( وهي مجرد نموذج لا يختلف في شيء عن باقي المدن المغربية) يفاجأ المرء لهذا الكم الهائل من الدكاكين التي تخصصت في بيع المتلاشيات والبضائع القديمة ، لدرجة أنه قد لا يخلو شارع أو زقاق في المدينة من محلات للخردة ، ناهيك عن الأسواق الدائمة بكل من كاوكي الكورس، بياضة ، شنقيط ،بوعاودة ، عزيب الدرعي ... ويبقى سوق العفاريت أهم هذه الأسواق وأقدمها إضافة إلى الأسواق العشوائية الأسبوعية خاصة يوم الأحد إذ أصبحت هذه الأسواق العشوائية تقطع حركة المرور من عدة شوارع ، ومصدر إزعاج لسكان عدة أحياء خاصة أنس ، جنان علان الكدية البيضاء ، الحي الصناعي .. تقول فاطمة واحدة من قاطني الكدية البيضاء :( لقد استُعمرنا ، وحُرمنا من التمتع بعطلة نهاية الأسبوع نحن في شبه زنازين معزولة أبناؤنا ممنوعون من الخروج واللعب إمام المنزل ، نهاية الأسبوع تفرض علينا الإقامة الجبرية ، وغالبا ما أجدني أفكر كيف أتصرف إذا ما وقع لي أو لأحد أفراد عائلتي مكروه وكنت مجبرة على إخراج سيارتي أو الاتصال بسيارة الإسعاف أو الإطفاء كيف يمكن لسيارة أن تخترق هذه الأكوام من المتلاشيات المكدسة أو الأجساد البشرية المتدافعة طيلة الشارع والأزقة المحيطة بنا، وكثير من زوارنا لا يمكنهم الوصول إلينا بسياراتهم يوم الأحد...) وفي حوار مع بعض زبناء هذه الأسواق كان معظم المستجوبين يحبذون تزايد هذه الأسواق : يقول عبد الرحيم موظف : ( الحقيقة أنا أفظل إقتناء أغراضي من هذه الأسواق ، خاصة الأحذية ، فكثيرا ما اشتريت أحذية رياضية أوغيرها جديدة لكنها سرعان ما تقطعت وعندما أقتني حذاء مستعملا يكون بثمن أقل ويعمر أكثر ...) وهو ما أكده أحد أصدقائه عندما قال : من الأحسن لي أن أقتني علامة تجارية مستعملة وإن بثمن غالي من أن أشتري بضاعة صينية جديدة ولو بثمن بخس ..) وفي إجابة بعض الباعة عن أسئلة : كيف تحصلون على هذه البضائع ؟ قال احدهم يبيع بعض التحف النحاسية : بالنسبة لي أنا كل القطع المعروضة هي من أنتاج مغربي منها ما اشتريته من أصحابها مباشرة ، ومنها ما اشتريته من باعة متجولين ، في مرحلة سابقة كان معظم زبنائي من الأجانب أم اليوم فقد أصبح المغربية يقبلون على مثل هذه التحف ...) فيما أكد صاحب محل بيع أحذية مستعملة : كل بضاعتي من خارج المغرب ، أتوصل بها عبر وسطاء ، ما علي إلا دفع الثمن لأتوصل بالرزم ( كوليات) في الموعد المحدد .... ) وإذا كانت هذه التجارة قد عرفت انتعاشا في السنوات الأخيرة ، ووظفت عددا من الشبان ، فإنها قضت على عدة مهن أخرى خاصة خياطة الرجال يقول سي محمد خياط : كنت متخصصا في خياطة بذل الرجال لكن في السنوات الأخيرة كسدت مهنتي نهائيا فبعدما كنت أخيط عدة بذل في الشهر ، تحول كل زبنائي نحو شراء الملابس الجاهزة القادمة من تركيا أو الصين ، ومنهم من أقبل على الملابس المستعملة فاضطررت إلى التوجه نحو خياطة النساء ،الحمد لله أن الأجنبيات لا يرتدين الجلباب والقفطان والتكشيطة وإلا كانت اسواقنا مكدسة بالقديم منها و فقدنا كل زبنائنا ...) والمتجول في هذه الأسواق الشعبية العشوائية يلاحظ أحيانا أن بعض الباعة يمتهنون هذه المهنة لاستهلاك الوقت فقط إذ منهم من يعرض أحيانا بضائع للبيع لن يشتريها أحد ، فمنهم من يضع أمام بطاريات مستعملة أو كاسيطات بالية، ولاعات أو خيوط وأسلاك أو جوارب مقطعة وقطع غيار لرادهات أو لعب أطفال مكسرة .... ورغم تعدد البضائع المستعملة المعروضة للبيع في الأسواق في الأسواق المغربية من الثمينة كالسيارات إلى الرخيصة كالولاعات و بطاريات تبقى أسواق الملابس المستعملة ( انظر الصورة ) تشكل أهم هذه الأسواق بآسفي إذ يلاحظ الكم الهائل من الملابس المستعملة والموجهة للفقراء وعدد من الطبقة المتوسطة: خليط من الملابس المختلفة الألوان والأحجام ، وركام من الأحذية المستعملة ، أغلب زبنائها من النساء ، أيادي تفتش، وصياح يتعالى ، نشل ، وسباب ، تحرش واحتكاك بالأجساد ... تلك هي أسواق الملابس المستعملة في بلادنا ، وهي ليست إلا دليلا واضحا على تدني القدرة الشرائية التي دفعت بالمغاربة إلى الإقبال على ملابس انتهت مدة صلاحيتها عند أصحابها الأصليين ، فلم تجد إلى أجساد المغاربة التي فرضت عليها الظروف الاجتماعية والاقتصادية التهافت عليها ، وإقناع الذات عند اقتنائها بالحصول على قطع نادرة بعد أن أوهمها البائع بأنها ماركة أصلية