الساعة تشير إلى العاشرة. الحركة بحي الحبوس بطيئةفي ذلك الصباح. أصحاب الحوانيت بمحيط سوق الدلالة بهذا الحي يتبادلون التحية وهم يتحركون بتثاقل... منهم من فتح دكانه، يقف أمام بابه يعلق بضاعته ومنهم من يقبع داخله وهو يرتب سلعه استعدادا لاستقبال الزبناء... بينما وقف مجموعة من الرجال أمام مدخل سوق الدلالة يتحدثون، يضحكون ويمازحون بعضهم... وبين الحين والآخر كانوا يحيون المارة أو يردون على تحياتهم. حوالي الساعة العاشرة والنصف، بدأت وتيرة الحركة بهذا الحي تتسارع. مجموعة من النساء ينأين بحملهن يتوافدن على السوق، كل منهن تقصد رجلا من الرجال الواقفين عند مدخله يبدو أنها تعرفه، تسلمه حملها فيتوجه به داخل سوق الدلالة. وعند قدم كل سارية من السواري المحيطة بفناء السوق يضع الحمل ثم يعود إلى مدخل السوق لتسلم بضاعة أخرى من ربونة أو زبون آخر من زبنائه فهو دلال.تتكدس البضائع حول السواري، فلكل دلال ساريته.التي يضع حولها بضاعة زبنائه. تشتهر مدينة الدارالبيضاء بسوقين للدلالة: واحد بشارع هوفويت بوانيي وهو الأقدم، والآخر بحي الأحباس. الأول عرف نشاطه تراجعا كبيرا في السنوات الأخيرة، حيث لم يعد يعمل إلا يوما أو يومين في الأسبوع... يوضح عز العرب صاحب دكان بسوق البازار بالمدينة القديمة: «اليوم، كان من المفروض أن يجتمع الدلاّلة، لكن السوق ميت والبضاعة قليلة أو منعدمة؛ لذلك لم يشتغل. وهذا هو الحال منذ سنوات. أحيانا يتبايع الناس خارج السوق وبدون دلالة، ثم يمضون لحال سبيلهم» . وأضاف متأسفا: «لقد ماتت الدلالة في هذا السوق». السوق الثاني الذين يعنينا هو أكثر انتعاشا، يوجد مقره بحي الأحباس أو الحبوس، كما اشتهر بين سكان الدارالبيضاء، هو قبلة الزوار المغاربة والأجانب لاقتناء الملابس والحلي والأواني والأدوات الفضية والنحاسية والجلدية التقليدية، هو بالإضافة إلى ذلك سوق معروف للدلالة، نشاطه هو الآخر تراجع، كما تغيرت تقاليده، لكنه مازال صامدا يحفظ للمكان ذاكرته وحمولته التاريخية التي تأخذك إلى فضاءات وأجواء ألف ليلة وليلة بهندسته العربية الإسلامية، بأقواسها وسواريها، والبضائع المعروضة به من الألبسة التقليدية الزاهية الألوان والأواني النحاسية والفضية اللماعة والمتلألئة. فتحس وأنت تتجول عبر حوانيته بنوع من المتعة والدفء، بل الألفة تجاه المكان. وتثير فضولك طقوس الدلالة بداخله. كان سوق الدلالة هذا أكثر الأماكن شهرة بحي الأحباس، نفس المكان ونفس المدة، ساعة ونصف يوميا، فقط الزمن تغير، نظرا للشكايات المتعددة التي تقدم بها تجار السوق من أصحاب الدكاكين للسلطات المعنية، نتيجة المضايقات التي يعانون منها بسبب هذا التوقيت الذي -حسب تعبيرهم- يحد من نشاطهم ويؤثر على تجارتهم. لقد كانت الدلالة تبدأ مباشرة بعد صلاة العصر. الآن، أصبحت تجرى مباشرة بعد صلاة الظهر، حيث يفتتح المزاد أو الدلالة بعد فترة الزوال، وينتهي قبل أذان صلاة العصر، باستثناء يوم الجمعة الذي لا تجرى فيه الدلالة. تغيرت كذلك بعض تقاليد هذا السوق. سابقا، كان زبناء الدلالة رجالا فقط، وتجارا على وجه العموم. حاليا، أصبح هؤلاء الزبناء متنوعون من حيث الجنس والسن والمستويات الاجتماعية، بل أصبح، اليوم، قبلة للنساء من مختلف الشرائح الاجتماعية والفئات العمرية كبائعات أو مشتريات أو دلالات أيضا، لكن بصيغة أخرى. يوضح أمين الدلالة: «كان سوق الدلالة أولا في المدينة القديمة بالبازارات. وعندما اتسعت مدينة الدارالبيضاء وبني حي الأحباس وسكن الناس به واشتغلوا بحوانيته طالب التجار بانتقال سوق الدلالة إليه. سابقا كان هناك أمين وحيد للتجار أصحاب الحوانيت والدلاّلة أيضا. وفي سنة 1985 أحدث منصب المحتسب، فقرر عزل أمانة التجار عن أمانة سوق الدلالة، فأصبح هناك أمين التجار وأمين الدلاّلة. وتم اختياري كأمين على سوق الدلالة. في سنة 1965 دخلت السوق ووجدت 57 دلالا، كنت أنا رقم 58. آنذاك كان العمل هنا جيدا والبيع والشراء جيد وكانت الزربية موجودة. كان أصحاب الحوانيت يشترون الزرابي ويرسلونها إلى تازة ووجدة والرباط، حيث كانت تدخل 150 زربية في اليوم الرومية والسباعية وتباع. وفي الصباح، ترسل إلى مدن أخرى. الآن، الزربية قلت والدلالة قلوا والبيع والشراء نقص وحتى الدلالة نقصوا. اليوم بقي 12 دلالا فقط في الدلالة». قديما، كان هذا السوق يعرف انتعاشا اقتصاديا وتجاريا مهما، وكان له إشعاع كبير على امتداد البلاد، حيث كان التجار يتوافدون عليه من مدن مغربية عديدة، بعضهم لعرض بضائعهم من الزرابي والجلابيب الصوفية والأواني الفضية والنحاسية المنتجة والمصنوعة بالمدن الكبيرة كالزربية الرباطية، أو بالقرى والمدن الصغيرة كالزرابي الصوفية والجلابة البزيوية: بزو، وزان، أزيلال وتازناغت، وكانت هذه البضائع تلقى إقبالا كبيرا، وكان البعض الآخر يقصد السوق لإقتناء هذه البضائع وترويجها بكبريات المدن المغربية كالرباط وفاس ومراكش. حسب الحاج عبد الرحمان الكورت، أمين الدلالة، كان سوق الدلالة بالحبوس يحظى بشهرة كبيرة، وكان يقصده التجار من كل أنحاء المغرب، يقول: «نشاط الدلالة بهذا السوق تراجع كثيرا، مقارنة مع السنوات الماضية، عندما كان يقصده التجار من كل أرجاء المغرب، محملين بالسلع والبضائع التقليدية، كالزرابي والأغطية الصوفية، والجلاليب البزيوية الباهظة الثمن، وكل الأشياء ذات القيمة كانت تعرض بهذا السوق. أما الآن، وكما ترين، كل شيء قابل للعرض الأواني الصالحة للاستعمال وغير الصالحة، السليمة والتالفة، الباهظة الثمن والبخسة... كل شيء قابل للبيع: الملابس، الزرابي، الطلامط، التلفزات، الثلاجات، كل الأثاث المنزلي يباع هنا إلا المضارب وسدادر الخشب لا تباع هنا.». الحاج عبد الرحمان (68 سنة)، التحق بالحرفة سنة 1965، كان عمره آنذاك 21 سنة، قدم من قلعة السراغنة واستقر به الحال عند أحد أقاربه الذي يملك دكانا بمحيط سوق الدلالة، ظل الحاج عبد الرحمان يترد على السوق حتى أصبح مألوفا لدى التجار هناك، ثم طلب من قريبه أن يساعده ليصبح دلالا. فتدخل لدى زملائه بسوق الدلالة الذين وافقوا عليه ونصبوه دلالا واستمر في عمله إلى أن أصبح أمينا للدلاّلة. لتعيين شخص ما دلالا لابد من توفر مجموعة من الشروط فيه، يقول الكورت: «قديما، كان لابد من توثيق ضمانة كتابية عند العدول، يشرف على أمرها أمين الدلالة، لكن هذا الشرط لم يعد، اليوم، معتمدا، بل اعتمدت الضمانة الشفوية، حيث يمكن أن يضمن مجموعة من التجار أو تاجر واحد بالسوق من أصحاب الدكاكين صديقا أو قريبا أو أحد المعارف، ليصبح دلالا»، ويوضح أكثر: «الدلال يصبح دلالا بموافقة أصحاب الحوانيت. والشروط التي يجب أن تتوفر فيه هي أن يكون محل ثقة معروفا معقولا ليس مخلوضا لم يسبق له أن دخل السجن، فيوقعون له وثيقة بالموافقة عليه يقدمونها لقائد المقاطعة ليوافق عليه بدوره». الدلالة سوق صغير وبسيط، بتقنيات بسيطة وأساليب قديمة في إدارة عملية البيع والشراء، نوع من البورصة خارج فضاءات المؤسسات وبعيدا عن تقنيات الماركوتينغ أو الأساليب الاقتصادية الحديثة وبدون دعاية أو إشهار. وسط فناء مستطيل بقيسارية تتكون من مجموعة من المحلات التجارية المحيطة بهذا الفناء، والخاصة ببيع الملابس والحلي والأواني والأدوات الفضية والنحاسية والجلدية التقليدية، تكدس الناس مجموعات منهم الجالس وأغلبهم نساء ومنهم الواقف ومنهم من يحاول أن يفسح لنفسه مساحة للرؤيا بين الأكتاف المتراصة. وسط هذه الجلبة، كان أمين الدلالة يجلس منتظرا أن يزدحم السوق بالتجار والزبناء ويمتلئ بمختلف البضائع، من زرابي وبطانيات وجلاليب وقفاطين وملابس عصرية وتقليدية، جديدة وقديمة، وأواني زجاجية ومعدينة، فضية ونحاسية، مستعملة وغير مستعملة؛ عندها نهض من كرسيه واتجه نحو الباحة، وقف وسطها وهو يحث الناس على إخلائها والالتحاق بجنباتها حتى يتمكن الدلالون من أداء مهمتهم ويتمكن الراغبون في الشراء من النظر إلى البضائع المعروضة في الدلالة. ثم التحق به وسط الحلقة بقية الدلالين. ثم صاح معلنا عن افتتاح الدلالة (البيع بالمزايدة): قائلا: «باسم الله نفتح الدلالة، توكلنا على الله، البايع يربح والشاري يربح، وكل من صلى على رسول الله يربح»، فهمهم الجميع مصليا على الحبيب. اتخذ الأمين مكانه وسط فناء السوق، يحيط به مجموعة من الرجال الدلاّلة، حوالي 8 رجال. كان كل دلال يحمل على كتفه بضائع زبونه الأول وهو يقبض بيديه قطعة منها يعرضها على أنظار المتحلقين حول الباحة من تجار السوق والتجار الزائرين وبقية الناس من النساء والرجال المتبضعين، كانوا يتحركون، في نفس الوقت، في اتجاهين متقابلين على طول هذا الفناء وكل واحد ينادي على بضاعته. صاح أحد الدلالين وهو يعرض جلابية نسائية «يافتاح يارزاق... من يفتح باب التمن في هذه الجلابية...». كان يبرح وهو يقطع الباحة ذهابا وإيابا عارضا الجلابية على أنظار الحاضرين وكان بعض الناس يمد يده نحوها فيقصده الدلال فيقلبها الزبون ويخبر جودتها وإن أعرض عنها يفوته الدلال. نادت إحدى السيدات على الدلال وفتحت السعر بعد أن رغبت في الجلابية قائلة: «100ده... توكل على الله». فنادى الدلال 100 ده من يزيد؟... من كال؟...». وبدأت النسوة يتزايدن على الجلابة، منهن من تزيد 10 ده، ومنهن من تزيد 20 ده إلى أن وصل السعر إلى 250 ده. ويوضح الحاج عبد الرحمان مهنة الدلال قائلا: «الدلالون يعرفون في ما بينهم، وبين زبنائهم، إضافة إلى الأسماء بالألقاب والأرقام. قديما، كانت مهنة الدلال تستقطب الكثير من الباحثين عن العمل ممن لا صنعة لهم، حيث بلغ عددهم، في إحدى الفترات 55 دلالا، حينها -يضيف متحسرا على الذي مضى- كان السوق يعرف ازدهارا، إذ كان يقام كل يوم، بعد صلاة العصر، وكان يقصده الناس من كل أنحاء المغرب، للسمعة والصيت اللذين اشتهر بهما، ولقيمة البضائع، بل التحف الثمينة التي كانت تعرض فيه، والتي كان يتزايد عليها أصحاب الدكاكين بالسوق والتجار والناس الوافدين على سوق الدلالة. أما اليوم، فقد تراجع كل ذلك، غاب أصحاب الحرفة القدامى، وتراجع العدد، حيث أصبح لا يتجاوز ال 10». وعن سؤال عن وجود دلالات بالسوق، أجاب: «لم يسبق يوما أن دخلت المرأة مهنة الدلالة. النساء لا يدخلن للدلالة». وعن إمكانية مزاولة المرأة لهذه المهنة مستقبلا، علق مستنكرا: «لا... لا يمكن ذلك!». وأضاف موضحا: «النساء يبعن ويشترين هنا، منهن من لها محل للبيع، ومنهن من تبيع في أسواق أخرى أو في المنازل، ومنهن من تشتري من أسواق آخرى أو من المنازل وتبيع هنا». ويشرح أمين البدلالة مهمة الدلال قائلا: «يأخذ الدلال البضاعة من زبائنه، ساعتين قبل بدء الدلالة، فلكل دلال زبائنه وساريته التي يضع قربها هذه البضاعة. وعند افتتاح الدلالة يعرضها وسط فناء سوق الدلالة، حيث تبدأ المزايدات عليها إلى أن يستقر سعرها على مبلغ محدد، يعرضه على صاحبها، إن رضي به، تم البيع، وإن لم يرضه، ترد له بضاعته. ويتقاضى الدلال، مقابل ذلك 5% من ثمن البضاعة المقبوض». يضيف: «سابقا، منذ عهد الاستعمار، كان الدلال يتقاضى نفس النسبة 5% إذا بيعت البضاعة، و2,5% إن لم يتم البيع. هذه النسبة تراجعت حاليا، نظرا لوضع التجار اليوم، فهم متنوعون: إما تجارا بسطاء أو متجولين في الأسواق الثابتة والأسبوعية، ونسبة كبيرة منهم نساء من مختلف الأعمار: أرامل أو مطلقات، أو أزواجهن عاطلون. كما أن نوعية المعروضات تراجعت هي الأخرى، إذ هي، في الغالب، أشياء قديمة، قليلة الجودة، بخسة الثمن». أحيانا قد تنشب نزاعات في سوق الدلالة بين الدلال وصاحب البضاعة أو بين البائع والمشتري، يوضح: «المشاكل كثيرة نقضي اليوم كله نكادوا في الناس. نصبروا البايع ونصبروا الشاري ونقادوا لخواطر ونفكوا المشاكل... باش ماكان نفكوها. مثلا إذا كان البائع قد بين للدلال العيب الموجود في بضاعته ولم يره الدلال للناس، يعاقب الدلال بأن يوقف عن العمل لمدة 2 إلى 4 أيام. حسب المرات التي كرر فيها هذا الخطأ. وفي المرة الثالثة، يطرد... إذا كان فيه التخلويض ماعندنا مانديروا به. أما إذا كان الخطأ من جهة البائع، أي أنه هو الذي لم ير العيب للدلال، ننقص قليلا من الثمن ونصبر الشاري». ويضيف: «عموما، الأمين هو الذي يرجع له أمر فض النزاعات والخلافات التي تنشب بين دلال وصاحب البضاعة، أو بين المشاركين في الدلالة من المشترين أو بين البائع والمشتري، حيث يتدخل الأمين للنظر في النازلة وإيجاد حل لها يرضي جميع الأطراف. وإن استعصى عليه الأمر، يحيله على أمين السوق، الذي يحاول من جانبه فض النزاع، ولا يتم اللجوء إلى السلطات المعنية إلا نادرا». وبشأن ذلك تضيف أيضا عائشة: «في بعض المرات، يحدث نزاع بسبب المزايدة على البضاعة. أحيانا، قد يرغب المشترون في قطعة فيتزايدون عليها على بعضهم البعض مما يخلق سوء تفاهم ونزاعات بينهم. فيتدخل الدلال أو أمين الدلالة لحل المشكل بينهم». عائشة سيدة في العقد الرابع من العمر، أم لأربعة أبناء، حاصلة على الباكلوريا علوم اقتصادية سنة 1985. درست سنتين بعد الباكلوريا، تقول: «أحترف الدلالة منذ 8 سنوات. بيني وبينك الله يعفو علي منها. هي مهنة صعبة تتطلب مجهودا كبيرا. عليك أن تكوني صبارة لكي تبيعي، وعليك الانتظار، ويمكن أن تربحي أو لا. بل أحيانا قد لا تحصلي حتى على رأس المال». وتصرح بحصرة وهي تتنهد: « الخطأ الذي اقترفته وندمت عليه هو عدم إتمام دراستي». عشاق الدلالة لهم أسباب يرون أنها وجيهة تجذبهم إلى ارتياد سوق الدلالة، يقول أحد زبناء السوق، «في الدلالة، يمكن أن تعثر على أشياء ثمينة، إذ يمكن أن يساعدك الحظ، فتعثر على تحفة أثرية قديمة يجهل صاحبها قيمتها. كما أن الفرص داخل الدلالة تكون، أحيانا، أفضل بكثير من الدكاكين». وتؤكد رشيدة أيضا: «في إحدى المرات، اقتنيت تكشيطة فاخرة بسعر بخس جدا (500 ده)، بعتها ب 1500ده». خديجة، قصدت الدلالة لتأثيث منزلها، تقول: «رغبت في اقتناء زربية رباطية، لكنني لم أستطع أداء ثمنها، فهي غالية 4000 ده. قصدت الدلالة، فاشتريت زربية مستعملة، لكنها أحسن جودة وفي حالة جيدة ب 1500 ده فقط». في الجهة المقابلة، تقبع صاحبة الزربية. قصدتها وسألتها هل الثمن مناسب بالنسبة لها أم لا، فقالت: «لم يتجاوز الثمن الذي أعطاني إياه مقابلها أقربائي ومعارفي وجيراني 750 إلى 1000 ده. لكنني رفضت بيعها. فرغم أنها مستعملة، فهي لم يسبق لها أن غسلت، لأنني لم أكن أستعملها إلا في الأعياد والمناسبات؛ لذلك رفضت بيعها، وقررت أن أبيعها في سوق الدلالة. الثمن -بالنسبة لي- مناسب نوعا ما، لأنني في ضائقة مالية. اللهم نصف خسارة أو خسارة كاملة». يتوافد على سوق الدلالة زبناء متنوعون أغنياء لاقتناء تحف وديكورات وأوان فضية ونحاسية وغيرها من السلع الفاخرة المعروضة بثمن بخس، يقصده أيضا زبناء بسطاء، بل حتى الفقراء إما لاقتناء أثاث وأدوات منزلية وألبسة مستعملة تقليدية وعصرية بأثمنة في متناولهم أو لبيع حاجياتهم لتوفير قوت يومهم.... الكل يقصد السوق إما للتخلص من أدوات منزلية لم يعد يرغب فيها أو من أجل بيع أغراضه بعد ضيق ذات يده، تقول حليمة: «بدأت آتي إلى هنا منذ شهرين، كلما انعدمت النقود في جيبي آتي لبيع ملابس أبنائي أو بعض أعراض بيتي: دجاكيطات ومخدات لأدبر قوت يومي وفي الغد يحن الله». كما يقصده الساعون لطلب الرزق لربما صادف الحظ أحدهم فيحصل على سلعة جيدة بثمن بخس يعيد بيعها فتحقق له ربحا، توضح عائشة: «حدثت لي ظروف قاسية هي التي جعلتني أمتهن الدلالة. أول مرة، قصدت سوق الدلالة بالحبوس لبيع أغراضي وحوائجي لأصرف على نفسي وزوجي وأبنائي. فعلت ذلك مرارا. وفي إحدى المرات، انتبهت لي سيدة عجوز من المعتادات على هذه المهنة، فتعاطفت معي. سألتني لماذا أبيع حوائجي، فحكيت لها قصتي، فنصحتني قائلة: «اسمعي ياابنتي، إذا ظللت تبيعين أغراضك وتصرفين منها سيأتي يوم لن تجدي فيه ما تبيعينه لتصرفيه على أسرتك. لماذا لا شترين ملابس من الدلالة وتعيدين بيعها فتوفرين لك ربحا تصرفينه وتحتفظين برأس المال». وشرحت لي أن من يشتري مني يعيد بيع ما اشتراه مني للغير. عملت بنصيحتها، فبدأت أشتري وأعيد بيع ما اشتريته. مثلا عندي 200 أو 300 ده. هذا ما كان في استطاعتي توفيره، أقتني به بضاعة من الدلالة وأعيد بيعها. وهكذا بدأت أجني من ذلك: مرة 100 ده ومرة 80 ده ومرة 50 ده ومرة لا شيء. الآن، أنا أحمد الله على ذلك وأترحم على تلك السيدة، سواء كانت حية أو ميتة». وتضيف عائشة: «لكي تأتي إلى هذا المكان وتمتهني هذه الهمنة، عليك التنازل عن أشياء كثيرة. عليك التخلي نسبيا عن كرامتك والتواضع فلا تعتبري نفسك أفضل من غيرك، لأن الناس هنا خليط متنوع، أغلبهم لا يحترم أحدا كيفما كان وضعه أو شأنه. الباعة والمشترون صعاب. مع مرور الأيام، خلقت مكاني بينهم. وتعلمت البيع والشراء. أنا من يعيل الأسرة، لأن زوجي عاطل بسبب إصابته بمرض نفسي. لا آتي للسوق يوميا خوفا من إهمالي لأبنائي وانحرافهم، فوزعت الأسبوع قسمين: حق لأبنائي وحق للسوق». عملية البيع والشراء داخل «الدلالة» توثق عند كاتب الدلالة، الذي يقوم بتسجيل المبيعات وتدوين المعلومات الشخحصية المتعلقة بكل من البائع والمشتري، اعتمادا على بطاقة التعريف الوطنية. كما أنه يسجل نوع البضاعة وثمنها، ويعطي نسخة لكل واحد منهما، مقابل 10 ده أو 20 ده ويؤكد أحد الدلالين أن عملية التوثيق هاته مهمة، لأنها تحمي المشتري أمام القانون وتجنبه من اقتناء بضائع مسروقة. لكن يضيف أغلب المشترين لا يقومون بتسجيل مشترياتهم. عاش هنا مدة طويلة كعامل عند صاحب الدكان. وعندما توفي المالك، وقع خلاف بين الورثة حول الدكان فأغلقوه. ولمساعدة هذا العامل، الذي ألف السوق وعاش فيه أكثر من 20 سنة، اتفق تجار السوق على أن يشتغل كدلال ووافقوا عليه، لأنه ابن السوق ومعروف.