منذ نعومة أظفارنا ونحن نسمع عن محنة أهلنا في فلسطين، كانت يومها الجرح الوحيد الذي يؤرق قلوبنا، ويشغل فكرنا الصغير، ما كان يراودُ ذهن أكثر المتشائمين يومها أن جراح الأمة ستكبر وتكبر، وأن معاول الهدم ستطال شعوباً هنا كما هناك، وأن الفتق سيتسع مداه ويستعصى على الراتق، ألِفت المحن ديارَنا، واستأنس الحزن بحياضنا، وبات الانعتاق أسمى أمانينا. حتى ردود فعلنا صارت تتضاءل وتضمحل جيلا بعد جيل، اعتادت أبصارنا منظر الدماء والقتلى، وما عادت تستوحش صراخ الثكالى والأيامى، فغابت تلك اللُّحْمة التي وحدَّنا بها ربنا في قوله تعالى ﴿ إنّما المؤمنون إخوة ﴾، ونسينا قول حبيبنا صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره"، وصرنا نلهث خلف مصالحنا الفردية وأطماعنا المادية، ففسدت ذواتنا قبل أن تفسد مجتمعاتنا. وحين قامت ثورات هنا وهناك تسرب بصيص أملٍ للنفوس المكلومة، والقلوب الموجوعة لكن سرعان ما خبتْ جذوته، وخارتِ القوى مجددا، وتأقلمت النفوس مع الإخفاقات الجديدة وإنْ على مضضٍ. لكن لمَ العجب وما لنجاح ربيعنا أدنى سبب.. حين تلتفت يمنة ويسرة باحثا عن مؤشرات للتغيير والنهضة لا تكاد تبصر ما يشجع على ذاك التفاؤل المجنون الذي خامَرَنا ذات لحظات. فها هو الفساد يرتع بكل أريحية في كل مجالات الحياة.. وها هي الأيدي الحانية تحدب عليه وتستوصي به خيراً.. وها هي السجون تُفتح ملءَ فِيها للمعارضين.. وها هي الأموال تُغدق على المفسدين.. وهاهم الجهلة يرتقون ويرتقون. للأسف الفساد تجذَّر فينا وسرطان التّيه والضياع نخر عودنا، فلا الصيحات ولا الاعتصامات يمكن أن تداوي مثل هذه العلل. قد يلزمنا الترقب أعواما مديدة للخروج من نفقنا المظلم، لكن هذا الانعتاق الذي نصبو إليه لن يكون أبدًا بدون الإصلاح الشامل الذي يبدأ بإصلاح الأفراد قبل الجماعات، ومحاسبة الحكام قبل المحكومين، والقيام بالواجبات قبل المطالبة بالحقوق. واستحضار الخوف من الخالق قبل الخوف من المخلوق، وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الذاتية، والتمرد على طغيان الهوى قبل التمرد على طغيان المسؤولين. والضرب على يد المفسد الكبير قبل المفسد الوضيع. إن بناء الأمم ودوامها رهينٌ بمدى قيام العدل بين أهلها، وكلما تفشّى الظلم وطغى الاستبداد كلما دنَا موعد الهلاك إيذانا بتهاوي أركان أيّ حكم ظالم، ولهذا قال الصادق الأمين: «إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ» رواه البخاري. ولننظر لهذه القصة الجميلة في عهد عمر الفاروق التي تؤكد أنه متى استقلّ القضاء ولم يخشَ في حكمه حاكمًا ولا محكومًا، فأبْشرْ بسطوع فجر العدالة والنزاهة، وعهدٍ لا يُضام فيه أحد. فقد ساوم عمر رضي الله عنه رجلاً من رعيته فِي شراء فرس ثم ركبه عمر ليجرّبه فعطب فردّه إِلَى صاحبه فأبى صاحب الفرس أن يأخذه فقال له- وهو خليفة المسلمين – : اجعل بيني وبينك حَكَمًا . فرضي الرجل بقضاء شريح العراقي فتحاكمَا إليه. فقال شريح: بعد أن سمع حجة كل مِنْهما: يا أمير المؤمنين خُذ مَا اشتريت أو رُدّه كما أخذته. فأكبر عمر هذه العدالة والنزاهة من شريح وقال: وهل القضاء إلا هكذا ، ثم أقام شريحًا على القضاء فِي الكوفة تقديرًا لنزاهته وعدله -رضي الله عنهما وأرضاهما- فالعدل العدل يا من تسوسون أمورنا فذاك أقوم عند الله وأقرب للتقوى كما قال ربّنا ﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآنُ قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتّقوا الله إن الله خبير بما تعملون ﴾ (المائدة 8). وتذكروا أن الغرب ما قامت نهضتهم إلا بالعدل في تسيير أمور دنياهم ورعاية شؤون رعيتهم، وكم من حكومات أُقيلت حين ثبت تقصيرها في عملها، وكم من شخصيات بارزة قُدّمت للعدالة حين ثبت استغلالها لمناصبها.. وكم.. وكم.. وصدق ابن تيمية رحمة الله عليه حين قال: "إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، بالعدل تستصلح الرجال وتستغرز الأموال".