لن ينازعنا أي كان، إن نحن ادعينا أن الأسلاف قد أدركوا ذروة المعارف من جهة، وتسيير الشؤون العامة من جهة ثانية. وأن الأخلاف ليس عليهم غير تقليدهم لأن السابقين الأولين، لم يتركوا للاحقين المتأخرين، ما يبذلون فيه جهودهم كي يتجاوزوا ما انتهى إليه متقدموهم في مختلف مجالات الحياة من نجاحات. كان الأسلاف من العامة، أو كانوا من ذوي الخبرة في الآداب والفنون، وكافة العلوم التجريدية والتطبيقية، أو كانوا من ذوي الخبرة في السياسة والاقتصاد والمال أو كانوا من الرعية، أو كانوا من الحكام. إنما على اعتبار الأمم والشعوب من منظور الإسلام، مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات. وذلك حتى لا ينخدع الناس بخطاب التقدميين والثوريين، الذين يتذمرون من مفهوم الرعية، المرتبط سياسيا بالراعي الذي هو قائد شعبه أو أمته. حتى لا ينخدعوا بأن الحاكم أشبه ما يكون براعي قطعان من الأغنام. وأن الرعية أشبه ما تكون بتلك القطعان؟ والحال أن المسالة لا تعدو أن تكون مجرد التمييز بين السلطات الحاكمة وبين المواطنين الخاضعين للقوانين أو للأحكام المعتمدة لتنظيم الدولة على وجه الدقة. مع العلم بأن عناصر السلطة من القمة إلى القاعدة، يخضعون بدورهم لنفس الأحكام، أو لنفس القوانين. إلا أن الجور متى استشرى، نتج عن استشرائه الإفلات من العقاب. كان هذا الإفلات في مصلحة الحكام، أو كان في خدمة "الأقلية الخادعة" التي تمد يد العون للمتجبرين على مدى الدهر! حتى ولو كانوا يحصلون منهم على مجرد الفتات أو ما يشبه الفتات. إننا إذن منذ البداية، لا نسلم بالتقليد، وإنما نسلم بالاتباع. والفرق بين هذين المفهومين، كالفرق بين الأصول والفروع. مع التأكيد على أن هذا التقسيم، يؤيده كل من النقل والعقل. فالمتشبعون بدينهم من المسلمين، لا يستبدلون النصوص القرآنية باعتماد مسمى الرأي المذموم، الذي لا يستند إلى اي أساس نقلي، ولا إلى أي أساس عقلي. كما أنهم لا يستبدلون النصوص الحديثية الصحيحة بما تمليه عليهم الأهواء، أو يفرضه عليهم منطق أبعد ما يكون عن احترام مبدأ الهوية، ومبدأ التناقض، ومبدأ الثالث المرفوع، كما يحدد مدلولاتها المنطق الصوري المدرسي. فإن نحن تساءلنا عن إمكان ارتكاب الحكام الأسلاف للأخطاء؟ وعن إمكان تصحيح الأخلاف لتلك الأخطاء، لما وجدنا أمامنا غير الاعتراف بوجود أخطاء للأسلاف، وبوجود تصحيح الأخلاف لهذه الأخطاء. لكن الأخلاف بدورهم يخطئون. وبما أنهم سيسصبحون مع مرور الزمن أسلافا، بعدهم يأتي الأخلاف، صح أن هؤلاء الأسلاف الجدد، سوف يصححون لأسلافهم ما ارتكبوه من أخطاء؟ وهكذا دواليك؟ فمتى خرج قطار حياة الأسلاف عن سكته، حاول الأخلاف إعادته إليها، ومتى خرج قطار هؤلاء الأخلاف عن سكته أعاده إليها أخلافهم على اعتبار أنهم أسلاف للأجيال الجديدة. وتصحيح الأخطاء الذي هو إعادة النظر في مختلف القضايا المثارة في الحاضر، ضرورة ممنهجة طبيعية للتقدم. أما إذا لم يكن لدى الأخلاف غير الشك المذهبي، فالجمود هو الذي يطأ بكلكله العقول، لأن الطريق لا يفتح سوى أمام المعتمدين على الشك المنهجي، بينما المحرومون من اتخاذه أداة للمعرفة، لن يغادروا المكان الذي يشدهم إلى القعود قيد أنملة. والنماذج التي تؤيد هذه الأطروحة، يزخر بها تاريخ البشرية. تمثل في المقدمين على التغيير الجذري لتخطي غلطات الأسلاف في الأنبياء والرسل، أو تمثلوا في الحكماء الذين لا نعني بهم الفلاسفة دون غيرهم ممن أوتو القدرة الخارقة والذكاء المتقد على إحداث تحولات في المحيط البشري الذي ترعرعوا فيه، واستعذبوا ماجرياته لفترة، ثم انقلبوا على ما استعذبوه واستمرؤوه، فانتقدوا الأسلاف حتى من عائلتهم بشدة، فكانوا مثالا لمن تجرأوا على توجيه لوم وتقريع لمن كانوا قبلهم يسيرون دواليب الإمبراطورية الإسلامية من قلب بلاد الشام. يتعلق الأمر هنا بأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ودولة بني أمية التي وضع معاوية بن أبي سفيان أسسها الأولى. وقد يعتقد البعض، أن المضمون العلمي، أو المعرفي، للثقافة التي تلقاها عمر بن عبد العزيز على يد أساتذته بالمدينةالمنورة، لم تكن غير نصوص قرآنية وحديثية جامدة لا تتحرك، إضافة إليها ما تلقاه من اجتهادات الصحابة والتابعين. بينما هو في الحقيقة جمع موفق بين النصوص تلك والأحداث الماضية والآنية في زمن السلم والحرب. تمت قراءة النصوص من خلال هذه الأحداث، أو تمت قراءة هذه الأحداث من خلال تلك النصوص، علما بأن النصوص توجه الواقع وتؤثر فيه، وتكشف عن خباياه. وبأن الواقع يوجه النصوص من خلال إجبار المشتغلين بها على عقلنتها. وبين هذه وتلك، يكون التطور ظاهرة حتمية، تدفع بالإنسان إلى التجديد والتجدد. فالخمر التي حرم شربها بنصوص نقلية، جعلت من كانوا يزرعون حقولا شاسعة بالعنب الذي تصنع منه، يكفون بعد إسلامهم عن زراعتها، أو تحويلها إلى زبيب. مما يعني أن حقول العنب في أرجاء شاسعة من العالم الإسلامي، اثر فيها النص القرآني والحديثي. وما قيل عن مصير زراعة العنب بعد تحريم الخمر، يقال عن تربية الخنازير التي توقف المسلمون بعد إسلامهم عن تربيتها. إلى آخر ما هنالك من نماذج مماثلة. أما النموذج الصارخ الذي يجسد تاثير الواقع في النصوص، فيتمثل في الصلاة داخل الطائرة التي تسير في اتجاهات مختلفة، فكان لا بد للراكب المسلم ، أن ينوي الاتجاه إلى القبلة، ويصلي جالسا حيث هو. فلنستحضر إن شئنا حكم الخليفة العادل، أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الذي أعاد للنظام الإسلامي نضارته التي كان عليها النظام الإسلامي على عهد جده الأعلى عمر بن الخطاب. فقبل وفاة سليمان بن عبد الملك الأموي، خط بيده عهدا هاكم نصه: "بسم الله الرحمان الرحيم: هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز: إني وليته الخلافة بعدي، ومن بعده يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا واتقوا الله ولا تخالفوا فيطمع فيكم". وهاكم صورة تولية أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز: "لما فرغ من دفن سليمان بن عبد الملك، سمع للأرض رجة، فإذا بها مراكب الخلافة: البراذين والخيل والبغال. ولكل دابة سائس (ما يعرف بموكب قادة الدول على عهدنا). فقال: ما هذه؟ قالوا: مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين، قربت إليك لتركبها، فقال: ما لي ولها؟ نحوها عني. دابتي أوفق لي! فقربوا إليه بغلته فركبها وصرف تلك الدواب. وجاء صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة، فقال له: تنح عني ما لي ولك؟ إنما أنا رجل من المسلمين"! وغيره اليوم يرحب بهذه المظاهر السلطوية التي لم تكن من سنة رسول الله ولا من فعل خلفائه الأربعة الراشدين. وبعد أن أدار عمر بن عبد العزيز ظهره للمظاهر البروتوكولية، قيل له: تنزل منزل الخلافة (يقصد القصر). فقال: فيه عيال أبي أيوب -سليمان بن عبد الملك- وفي فسطاطي كفاية حتى يتحولوا (لأن القصر ملك للدولة). فاقام في منزله حتى فرغوه بعد. وسار، وسار معه الناس حتى دخل المسجد، فصعد المنبر، واجتمع إليه الناس فقال: "أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير راي كان مني فيه ولا طلبة له! ولا مشورة من المسلمين! وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم". هنا نقف لنتساءل: اي جديد حمله عمر بن عبد العزيز لتغيير التهافت على السلطة، إرضاء للميولات الذاتية، أو للطموحات الشخصية؟ إن عنوان شخصية عمر بن عبد العزيز، حتى قبل أن يصبح أميرا للمؤمنين، هو الصدق والمحبة والأخوة والتشاور والعدل قبل كل شيء وبعد كل شيء. فقد ظل واليا على المدينة حتى كانت سنة 91 هجرية، فضمت إليه ولاية مكة. ثم عزله الوليد بن عبد الملك سنة 96 هجرية بإيعاز من الحجاج بن يوسف الثقفي.